الجمعة، 9 نوفمبر 2012

آية الكرسي


آية الكرسي

اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(255)

لا يمكن أن نصل إلي آية الكرسي دون أن نتذكر قصة الشيطان مع أبي هريرة وهي:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
"وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو الطعام فأخذته وقلت والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال: إني محتاج، وعلى عيال، ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
يا أبا هريرة: " ما فعل أسيرك البارحة"؟ قال: قلت يا رسول الله: شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: "أما إنه كذبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا أبا هريرة: "ما فعل أسيرك"؟ فقلت يا رسول الله: شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: ما هي؟

قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" حتى تخم الآية؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما فعل أسيرك البارحة"؟ قلت يا رسول الله: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال: "ما هي" قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم "الله لا إله إلا هو الحي القيوم"، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا (أي الصحابة) أحرص شيء على تعلم الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال صلى الله عليه وسلم: "ذاك الشيطان".

وآية الكرسي موضعها في السورة مهم جدا وتدلنا إلى أنه إذا أردنا تطبيق المنهج يجب أن نستشعر قدرة الله وعظمته وجلاله
قال ابن كثير : الصحيح أن الكرسي غير العرش وأن العرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار.
وأجمل وأشمل تفسير لهذه الآية هو ما جاء علي قلب
الشيخ الشعراوي حيث يقول:

نقف بالتأمل عند قوله تعالي: "الله لا إله إلا هو"عندما نقول: "الله" فإن الذهن ينصرف إلى الذات الواجبة الوجود. ما معنى "واجبة الوجود"؟
الوجود قسمان: قسم واجب، وقسم ممكن.
القسم الواجب هو الضروري الذي يجب أن يكون موجودا، والحق سبحانه وتعالى حين أعلمنا باسمه "الله" أعطانا فكرة على أن كلمة "الله" هذه يتحدى أن يسمى بها سواه.
ولو كنا جميعا مؤمنين لكان احترامنا لهذا التحدي نابعا من الإيمان. ولكن هناك كافرون بالله ومتمردون ومع ذلك هل يجرؤ واحد من هؤلاء أن يسمي نفسه "الله"؟
وهذا دليل على أن كفرهم غير وطيد في نفوسهم، فلو كان كفرهم صحيحا لقالوا: سنسمي ونرى ما يحدث، ولكن هذا لم يحدث.
إذن "الله" علم واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال.
وبعد ذلك جاء بالقضية الأساسية وهي قوله تعالى:
"لا إله  إلا هو" وهنا نجد النفي في "لا إله"، والإثبات في "إلا هو". والنفي تخلية والإثبات تحلية.
خلى سبحانه نفسه من وجود الشريك له ثم أثبت لنا وحدانيته. و"لا إله إلا الله" أي لا معبود بحق إلا الله.
إنه أمر من اثنين، الأمر الأول:
هو أنه ليس هناك إله غيره. فالقضية منتهية. والأمر الآخر:
هو أنه لو كان هناك آلهة أخرى  فأين هذه الآلهة الأخرى؟
إذن كلمة "لا إله إلا الله" صدق في ذاتها حتى عند من ينكرها، والدليل فيها هو عدم وجود المنازع لهذه الدعوة؛

(قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا)   (الإسراء)

فائدة : يجب أن نعلم أن "إلا" هنا ليست أداة استثناء، لأنها لو كانت أداة استثناء فكأنك تنفي أن توجد آلهة ويكون الله من ضمن هذه الآلهة التي نفيتها وذلك غير صحيح.
وإنما المراد أنه لا آلهة أبداً غير الله فهو واحد لا شريك له، وأنه لا معبود بحق إلا هو فكلمة "إلا" ليست للاستثناء وإنما هي بمعنى غير، أي لا إله غير الله.

قال الدكتور عبد الوهاب عزام:
إنما التوحيد إيجاب وسلب فيهما للنفس عزم ومضاء
لا،  وإلا ، قوة قاهرة فيهما في القلب قطبا الكهرباء

فقوله: " إيجاب وسلب" هو قول متأثر بالقضية الكهربية.
فأنت عندما تقول "لا إله"، فـ "لا" للنفي، و "إلا"  للإثبات،
فالإيجاب في "إلا" والسلب في "لا". ومادام فيه إيجاب وسلب، إذن ففيه شرارة كهرباء.

"الحي" هي أول صفة يجب أن تكون لذلك الإله، فلو كان عدماً فكيف تأتي الصفات على العدم؟، وكلمة "حي" عندما نسمعها نقول: ما هو الحي؟.
إن الفلاسفة قد احتاروا في تفسيرها. فمنهم من قال:
الحي هو الذي يكون على صفة تجعله مدركاً.

كأنه يعني حياتنا نحن، ونقول لصاحب هذا الرأي: لا، إن أردت الحياة بالمعنى الواسع فـ"الحي": هو الذي يكون على صفة تبقى له صلاحيته لمهمته، مثال ذلك النبات، مادمت تجده ينمو، إذن ففيه حياة تبقى له صلاحية مهمته. فلو قطع لانتهت الصلاحية. ومثال الإنسان عندما يموت تنتهي صلاحيته لمهمته، والعناصر الجامدة عندما تأتي مع بعضها تتفاعل، هذا التفاعل فرع وجود الحياة، لكنها حياة مناسبة لها وليست مثل حياتنا.
إذن فالحياة مقابلة للهلاك. و"الحي" غير هالك. والهالك لا يكون حياً، ويقول تعالى في الآخرة:  (كل شيء هالك إلا وجهه)

ومعنى ذلك أن كل الأجناس من أعلاها إلى أدناها، سواء الإنسان، أو الملائكة، أو الحيوان أو النبات، كلها ستكون هالكة، ومادام كل شيء سيهلك يوم القيامة فكأنه لم يكن هالكاً قبل ذلك، وله حياة مناسبة له. أليست الحجارة شيئاً، وستدخل في الهلاك يوم القيامة؟. إذن فهي قبل ذلك غير هالكة.
لكننا نحن البشر لا نفطن إلى ذلك ونفهم الحياة فقط على أنها الحس والحركة الظاهرة. مع أن العلماء قد أثبتوا أنه حتى الذرة فيها دوران، ولها حياة. وأنت عندما تنظر بالمجهر على ورقة من النبات، وتشاهد العمليات التي تحدث بها، وتقول: هذه حياة أرقى من حياتنا، وأدق منها.
إذن فالحي على إطلاقه هو الله والحق سبحانه وتعالى قال:
"الله لا إله إلا هو الحي" وأثر صفة هذه موجود في كل الصفات الأخرى فقال: "القيوم".

و"القيوم" صفة مبالغة في قائم. ومثلها قولنا: "الله غفور" لكن ألا يوجد غافر؟ يوجد غافر، لكن "غفور" هي صفة مبالغة.

وصفات الله لا تحتمل القوة والضعف في ذات الحدث، إنما في تكررها بالنسبة للمخلوقين جميعاً، فهو غافر لهذا، وغافر لذاك، وغافر لكل عاص يتوب، إذن فالحدث يتكرر، فيكون "غفوراً" وغفارا". وهذا ما يحل لنا الإشكال في كثير من الأمور
(وما ربك بظلام للعبيد)
فنحن هنا نجد قضية لغوية تقول: إنك إذا جئت بصيغة المبالغة، وأثبتها، تكون الصيغة الأخرى الأقل منها ثابتة بالضرورة.
ولذلك لم يقل: بظلام للعبد، بل قال: للعبيد. إذن فهذا العبد يحتاج ظالماً، والعبد الآخر يحتاج ظالماً، وذاك يحتاج ظالماً! فعندما يظلم كل هؤلاء يكون ظلاماً، ولذلك نفاها سبحانه وقال: "وما ربك بظلام للعبيد".
والحق هنا يقول: "قيوم" وهذه صفة مبالغة من قائم، فالأصل فيها: القائم على أمر بيته، والقائم على أمر رعيته، والقائم على أمر المدرسة، والقائم على أمر هذه الإدارة، ومعنى قائم على أمرها: أنه متولي شئونها، فكأن القيام هو مظهر الإشراف.
فنحن لا نقول: "قاعد على إدارتها". وعندما نقول" قيوم" فمعناها أنه أوسع في القيام.
كيف جاء هذا الاتساع؟.
لأن القائم قد يكون قائماً بغيره، لكن حين يكون قائما بذاته، وغيره يستمد قيامه منه، فلابد أن يكون "قيوماً"، ومن قيومته أنه:

"لا تأخذه سنة ولا نوم"
وقيل في كتب العلم: إن قوم بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام : أينام ربنا؟.
فأوحى الله إليه: أن آت بزجاجتين وضعهما في يد إنسان، ودعه إلى أن ينام، ثم انظر الجواب. فلما وضع في يده الزجاجتين ونام. انكسرت الزجاجتان فقال: هو قائم على أمر السماء والأرض، ولو كانت تأخذه سنة أو نوم لتحطمت الدنيا.

و"السنة" هي أول ما يأتي من النعاس؛ أي النوم الخفيف، فالواحد منا يكون جالساً ثم يغفو، لكن النوم هو "السبات العميق"، فلما قال: "لا تأخذه سنة" قالوا: إنه يتغلب على النوم الخفيف لكن؛ هل يقدر على مقاومة النوم العميق؟.
فقال الحق عن نفسه: "لا تأخذه سنة ولا نوم".
أتريدون تطميناً من خالق لمخلوق أكثر من أنه يقول للمخلوق: "نم أنت ملء جفونك، واسترح؛ لأن ربك لا ينام". ماذا تريد أكثر من هذا؟
هو سبحانه يعلم أنه خلقك، وأنك تحتاج إلى النوم، وأثناء نومك فهناك أجهزة في جسمك تعمل. أإذا نمت وقف قلبك؟ أإذا نمت انقطع نفسك؟ أإذا نمت وقفت معدتك من حركتها الدودية التي تهضم؟ أإذا نمت توقفت أمعاؤك عن امتصاص المادة الغذائية؟ لا، بل كل شيء في دولابك يقوم بعمله. فمن الذي يشرف على هذه العمليات لو كان ربك نائما؟
وإياك أن تفهم أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن شيئا في كونه يخرج على مراده، لا؛ لأن كل ما في السماوات والأرض له، فلا شيء ولا أحد يخرج عن قدرته. ولذلك يقول الحق:
"له ما في السماوات وما في الأرض".

إنه سبحانه وتعالى يوضح: أنا أعطيتك الراحة في الدنيا، وحتى الكافر جعلته يتنعم بنعمي، ولم اجعل الأسباب تضن عليه، وأعطيته مادام قد اجتهد في تلك الأسباب مما يدل على أنني ليس عندي محاباة.
قلت للأسباب: يا أسباب من يحسنك يأخذك ولو كان كافرا بي. لكنه سيأتي يوم القيامة وليس للكافر إلا العذاب، لأنه مادام قد عمل في الدنيا واحسن عملا فقد أخذ جزاءه، فإياكم أن تظنوا
إن هؤلاء الذين افتروا على الله بالشرك به، واتخذوا أصناما باطلة لا تضرهم ولا تنفعهم. يقولون:
إنها تشفع لهم عند الله في الآخرة، فيقول الحق سبحانه.
إن الشفاعة ليست حقا لأحد. ولكنها عطاء من الله، لذلك يقول: "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه".
ويقول الحق:
"يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم".
ساعة يتعرض العلماء إلى: "ما بين أيديهم وما خلفهم" يشرحون لنا أن ما بين اليدين أي ما أمامك، وما خلفك أي ما وراءك، وما بين يدي الإنسان يكون: مواجها لآلة الإدراك الرائدة وهي العين، فهو أمر يشهد. والذي في الخلف يكون غيبا لا يراه، كأن ما بين اليد يراد به المشهود والذي في الخلف يراد به الغيب، فهو "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم" أي يعلم مشهدهم وغيبهم، ويطلق "ما بين اليد" إطلاقا آخر.
إننا قد نسأل عما بين يديك. هل هو مواجه لك أو غير مواجه؟ فلو كان أمامك بشر، فهل هم قادمون إليك أو راحلون عنك؟

إنهم إن كانوا راحلين عنك فقد سبقوك وقد جئت أنت من بعدهم، ومن وراءك سيأتي من بعدك. أي أن الحق سبحانه يخبرنا أنه يعلم الماضي والمستقبل. فمرة يعلم الحق ما بين أيديهم، أي العالم المشهود ويسمونه "عالم الملك".
وما خلفهم أي الغيب، ويسمونه "عالم الملكوت".
إنه يعلم المشهود لهم والخفي عنهم.  إنها إحاطة من كل ناحية.
"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء".
وصفة الله وعلمه أعظم من أن يحاط بهم، لأنها لو أحيطت لحددت، وكمالات الله لا تحدد، مثلما ترى شيئا يعجبك فتقول: هذه قدرة الله، هل هي قدرة الله أو مقدور الله؟
إنها مقدور الله أي أثر القدرة، فعندما يقول:
"ولا يحيطون بشيء من علمه" أي من معلومه"

"
ويحيطون" هي دقة في الأداء، لأنك قد تدرك معلوما من جهة وتجهله من جهات، فأوضح سبحانه: أنك لا تقدر أن تحيط بعلم الله أو قدرته؛ لأن معنى الإحاطة أنك تعرف كل شيء، مثل المحيط على الدائرة، لكن ذلك لا يمنع أن نعلم جزئية ما، ونحن نعلم بما آتانا الله من قوانين الاستنباط ، فهناك مقدمات نستنبط منها نتائج، وقول الله:
"إلا بما شاء" هو إذن منه سبحانه بأنه سيتفضل على خلقه بأن يشاء لهم أن يعلموا شيئا من معلومه، وكان هذا المعلوم خفيا عنهم ومستورا في أسرار الكون، ثم يأذن الله للسر أن ينكشف، وكل شيء اكتشفه العقل البشري، كان مطمورا في علم الغيب وكان سرا من أسرار الله، وبعد ذلك أذن الله للسر أن ينكشف فعرفناه، بمشيئته سبحانه.
فكل سر في الكون له ميلاد كالإنسان تماما، أي أن له ميعادا يظهر فيه، وهذا الميعاد يسمى مولد السر.
لقد كان هذا السر موجودا وكان العالم يستفيد منه وإن لم يعلمه. لقد كنا نحن نستفيد ـ على سبيل المثال ـ من قانون الجاذبية ولم نكن نعلم قانون الجاذبية، وكذلك النسبية كنا نستفيد منها ولم نكن نعلمها.
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق....))  فصلت: 53)


هذا يعني أنه سبحانه سيولد لنا أسراراً جديدة، وهذا الميلاد ليس إيجاداً وإنما هو إظهار، ولذلك يقول الناس عن الأسرار العلمية: إنها اكتشافات جديدة، لقد تأدبوا في القول مع أن كثيرا منهم غير متدينين.
قالوا: اكتشفنا كذا، كأن ما اكتشفوه كان موجودا وهم لا يقصدون هذا الأدب. إنما هي جاءت كذلك، أما المؤمنون فيقولون:
لقد أذن الله لذلك السر أن يولد.

وقوله : "لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء" فيه تحد واضح. فحتى إذا اجتمع البشر مع بعضهم فلن يحيطوا بشيء إلا بإذنه.
بمعني أن الإنسان قد يصادف السر بالبحث، ومرة يأتي سر آخر في مجال البحث عن غيره، فالله لا يضن بكشف السر حتى لو لم يشتغلوا به ونسميها نحن ـ مصادفة ـ إن كل شيء يجري في الكون إنما يجري بمقدار، وهذا هو الذي يفرق لنا بين معرفة غيب كان موجودا وله مقدمات في كون الله نستطيع أن نصل إليه .
وشيء مستور عند الله ليست له مقدمات؛ إن شاء سبحانه أعطاه من عنده تفضلا، وقد يريد الله أن يعطي لواحد كرامة، فأعطاه كلمة على لسانه قد يكون هو غير مدرك لها!
ونجد أن كلمة "شيء" تعني أقل القليل.. وقول الحق:

"وسع كرسيه"  والكرسي: في اللغة من الكرس. والكرس هو: التجميع، ومنه الكراسة وهي عدة أوراق مجمعة، وكلمة "كرسي" استعملت في اللغة بمعنى الأساس الذي يبنى عليه الشيء، فمادة "الكرسي" (الكاف والراء والسين) تدل على التجميع وتدل على الأساس الذي تثبت عليه الأشياء؛ فنقول:
اصنع لهذا الجدار كرسيا، أي ضع لهذا الجدار أساساً يقوم عليه.
وتطلق أيضا على القوم والعلماء الذين يقوم بهم الأمر فيما يشكل من الأحداث، والشاعر العربي قال:

"كراسي في الأحداث حين تنوب"
أي يعتمد عليهم في الأمور الجسيمة.

وحين ينسب شيء من ذلك للحق سبحانه وتعالى. فإن السلف لهم فيها كلام والخلف لهم فيها كلام، والسلف يقولون:
كما قال الله نأخذها ولكن نضع كيفيتها وتصورها في إطار "ليس كمثله شيء"، وبعضهم قال:
نؤولها بما يثبت لها صفة من الصفات.
كما أثبتنا لله كثيرا من الصفات، في خلق الله ونقول:
علمه لا كعلمنا، وبصره لا كبصرنا، فلماذا يكون كرسيه مثل كرسينا؟. فتكون في إطار "ليس كمثله شيء".

والعلماء قالوا عن الكرسي: إنه ما يعتمد عليه، فهل المقصود علمه؟.
نعم . وهل المقصود سلطانه وقدرته؟.
نعم، لأن كلمة "كرسي" توحي بالجلوس فوقه، والإنسان لا يجلس عن قيام إلا إذا استتب له الأمر، ولذلك يسمونه "كرسي الملك"؛ لأن الأمر الذي يحتاج إلى قيام وحركة لا يجعلك تجلس على الكرسي، فعندما تقعد على الكرسي، فمعنى ذلك أن الأمر قد استتب، إذن فهو بالنسبة لله السلطان، والقهر، والغلبة، والقدرة. .
أو نقول: مادام قال: "وسع كرسيه السماوات والأرض" فوسع الشيء أي: دخل في وسعه واحتماله.
"والسماوات والأرض" نحن نفهمها أنها كائنات كبيرة بالنسبة لنا.
وعندما يقول: إن الكرسي وسع السماوات والأرض، إذن، فهو أعظم من السماوات والأرض .

يقول أبو ذر الغفاري رضي الله عنه:

)
سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال:
يا أبا ذر ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة. وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة)

والبشرية بكل ما وصلت له من إنجازات علمية قد وصلت إلى القمر فقط وهو مجرد ضاحية من ضواحي الأرض، ومفصولة عنا بمسافة تقاس بالثواني الضوئية، ولقد تعودنا في حياتنا أن نستخدم وحدات الميل والكيلومتر لقياس الأطوال والأبعاد الكبيرة، لكننا اكتشفنا أن هذه الوحدات ليست ذات نفع في قياس أبعاد النجوم؛ لأننا نعرف مثلا أن الشمس تبعد عن الأرض ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال، ولكن عندما نريد أن نرصد المسافة بيننا وبين أحد النجوم فلسوف نضطر إلى استخدام أعداد كثيرة من الأصفار أمام رقم ما، وهذا يجعل التعبير غير عملي، ولهذا السبب وضع علماء الفلك وحدة ملائمة لقياس أبعاد النجوم وهي ما نسميه السنة الضوئية.

ونحن نعرف أن سرعة الضوء حوالي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية. ولذلك فقياس أي مسافة بيننا وبين أي نجم في السماء أمر يحتاج إلى حسابات دقيقة وكثيرة ودراسة علوم متعددة.
فالشمس بيننا وبينها ثلاثة وتسعون مليوناً من الأميال ويصلنا ضوؤها في خلال ثماني دقائق وثلث الدقيقة.
والشعري اليمانية وهي ألمع نجوم السماء يصل إلينا ضؤوها في تسع سنوات ضوئية.
إذن فالسنة الضوئية هي وحدة لقياس المسافات الفلكية. ونحن نذهل عندما نعرف أن بعض النجوم يصل ضؤوها إلينا في خمسين سنة ضوئية!!
كل ذلك ونحن لم نصل بعد إلى السماء الدنيا، فما بالنا ببقية السماوات؟
إذن فحدود ملك الله فوق تصورنا. ولنا أن نعرف أي تكريم من الحق للمؤمنين حين يصور لنا ضخامة الحياة يقول سبحانه:
)سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) (الحديد(


"ولا يؤوده حفظهما"، ومعنى أده الشيء، أي أثقله. وحتى نفهم ذلك هب أن إنسانا يستطيع أن يحمل عشرة كيلوجرامات، فإن زدنا هذا الحمل إلى عشرين من الكيلوجرامات فإن الحمل يثقل عليه، ويجعل عموده الفقري معوجا حتى يستطيع أن يقاوم الثقل. فإن زدنا الحمل أكثر فقد يقع الرجل على الأرض من فرط زيادة الوزن.
إذن فمعنى "ولا يؤوده حفظهما" أي أنه لا يثقل على الله حفظ السماوات والأرض. إن السماء والأرض وهما فوق اتساع رؤية البشر؛ فقد وسعهما الكرسي الرباني.

قال بعض المفسرين:
إذا كان الكرسي لا يثقل عليه حفظ السماوات والأرض فما بالنا بصاحب الكرسي!!؟

إنه الحق وحده سبحانه وتعالى الذي يحفظ السماوات والأرض في توازن عجيب ومذهل، ولئن قدر لهما أن تزولا. فلن يحفظهما أحد بعد الله، أي لا يستطيع أحد إمساكهما؛ وإذا كانت هذه الأشياء الضخمة من صنع الله وهو فوقها، فإنه عندما يصف نفسه بأنه "علي" و"عظيم" فذلك أمر طبيعي. إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا تذييلاً منطقياً يقتضيه ما تقدمت به الآية الجليلة:

"وهو العلي العظيم" وكلمة "علي" صيغة مبالغة في العلو. و"العلي" هو الذي لا يوجد ما هو أعلى منه فكل شيء دونه.
هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها نعرفها بآية الكرسي؛ لأن كلمة "الكرسي" هي الظاهرة فيها. وكلمة "الكرسي" فيها: تعني السلطان والقهر والقدرة والملكية وكلها مأخوذة من صفات الحق جل وعلا. إنه لا إله إلا هو. إنه الحي. إنه القيوم. إنه الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. والشفاعة عنده مأذون فيها بإرادته هو وحده وليس بإرادة سواه. وهو العليم بكل شيء، الذي يسع كرسيه السماوات والأرض وهو العلي فلا أعلى منه، وهو العظيم بمطلق العظمة.
وتتجمع كل هذه الصفات لتضع أمامنا أصول التصور في العقيدة الإيمانية، وقد وردت فيها أحاديث كثيرة، ومنها نستخلص أنها آية لها قدرها ومقدارها عند الله.

وعن أبي أمامه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ دبر كل صلاة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت".

وعن علي كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأها ـ يعني آية الكرسي ـ حين يأخذ مضجعة آمنه الله تعالى على داره، ودار جاره، وأهل دويرات حوله".

كل هذه المعاني قد وردت في أفضال هذه الآية الكريمة، وقد جلس العلماء يبحثون عن سر هذه المسألة فقال واحد منهم: انظروا إلى أسماء الله الموجودة فيها.
وبالفعل قام أحد العلماء بحصر أسماء الله الحسنى فيها، فوجد ستة عشر اسماً من أسماء الله.
وبعضهم قال: إن بها سبعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى.
وبعضهم قال أن فيها واحداً وعشرين اسماً من أسماء الله.
كل ذلك من أجل أن يستنبطوا منها أشياء، ويعلموا فضل وفضائل هذه الآية الكريمة. والذين قالوا إن بها ستة عشر اسما قالوا:
إن بها اسم علم واجب الوجود "الله".
واسم "هو" في لا إله إلا هو: هو الاسم الثاني.
و"الحي" هو الاسم الثالث.
و"القيوم" هو الاسم الرابع
وعندما ندقق في قول الحق "لا تأخذه سنة ولا نوم" نجد أن الضمير في "لا تأخذه عائد إلى ذاته ـ جل شأنه .
و"له ما في السماوات وما في الأرض" فيها ضمير عائد إلى ذاته سبحانه.
وكذلك الضمائر في قوله: "عنده" و"بإذنه" و"يعلم" و"من علمه" و"بما شاء" و"كرسيه"
كلها تعود إلى ذاته جل شأنه.
و"لا يؤوده حفظهما" فيها ضمير عائد إلى ذاته.
كذلك و"هو" في قوله سبحانه "وهو العلي العظيم"
اسم من أسمائه تعالى.
و"العلي" اسم من أسمائه جل وعلا.
و"العظيم" كذلك اسم من أسمائه سبحانه وتعالى.

لكن عالماً آخر قال: إنها سبعة عشر اسماً من أسماء الله؛ لأنك لم تحسب الضمير في المصدر المشتق منه الفعل الموجود بقوله: "حفظهما" إن الضمير في "هما" يعود إلى السماوات والأرض.
و"الحفظ" مصدر. فمن الذي يحفظ السماوات والأرض؟
إنه الله سبحانه وتعالى، وهكذا أصبحوا سبعة عشر اسماً من أسماء الله الحسنى في آية الكرسي.

وعالم ثالث قال: لا، أنتم تجاهلتم أسماء أخرى؛ لأن في الآية الكريمة أسماء واضحة للحق جل وعلا، وهناك أسماء مشتقة، مثال ذلك:
الله لا إله إلا هو. الحي هو. القيوم هو. العلي هو. العظيم هو. ولكن العلماء قالوا ردا على ذلك:
صحيح أنها أسماء مشتقة ولكنها صارت أعلاما. المهم أن في الآية الكريمة ستة عشر اسماً، وإن حسبنا الضمير المستتر في "حفظهما" نجد أنها سبعة عشر اسماً، وإذا حسبنا الضمير الموجود في المشتقات مثل "الحي هو" و"القيوم هو" و"العلي هو" و"العظيم هو". صارت أسماء الله الحسنى الموجودة في هذه الآية الكريمة واحداً وعشرين اسماً.
إذن هي آية قد جمعت قدراً كبيرا من أسماء الله، ومن ذلك جاءت عظمتها.

وهذه الآية الكريمة قد بينت ووضحت قواعد التصور الإيماني، وأنشأت عقيدة متكاملة يعتز المؤمن أن تكون هذه العقيدة عقيدته. والآية في ذاتها تتضمن حيثيات الإيمان، إنه مادام هو الله لا إله إلا هو، ومادام هو الحي القيوم على أمر السماء والأرض، وكل شيء بيده، وهو العلي العظيم، فكل هذه مبررات لأن نؤمن به سبحانه وتعالى، وأن نعتز بأن نعتقد هذه المعتقدات، وتكون هي الدليل على أن المؤمن فخور بهذا الدين الذي كان أمر الألوهية المطلقة واضحا وبينا فيه.

ولذلك فمن الطبيعي ألا يقهر الحق أحداً على الإيمان به إكراهاً، لأن الذي يقهر أحداً على عقيدة ما، هو أول من يعتقد أنه لولا الإكراه على هذه العقيدة لما اعتقدها أحد.
ونحن في حياتنا اليومية نجد أن أصحاب المبادئ الباطلة هم الذين يمسكون السياط من أجل إكراه الناس على السير على مبادئهم.
وكل من أصحاب هذه المبادئ الباطلة يعلم تمام العلم أنه لو ترك السوط والقهر ما سار إنسان على مثل هذه المبادئ الباطلة.

ولو كان أحد من أصحاب هذه المبادئ الباطلة معتقدا أن مبدأه سليم لقال : أطرح هذا المبدأ على الناس، وأترك لهم الخيار؛ لأنه في هذه الحالة سيكون واثقا من مبدئه.
أما الذي يقهر الناس إكراها بالسوط أو السلطان ليعتقدوا مبدأ ما، فهو أول من يشك في هذا المبدأ، وهو أول من يعتقد أنه مبدأ باطل. مثل هؤلاء نراهم عندما تضعف أيديهم عن استعمال السوط أو السلطان فإن أمر مبدئهم ينهزم ويسقط بنيانه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق