السبت، 24 نوفمبر 2012

ســــائق: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


ســــائق
:
كتمت شهقتي وهو يناولني التذكرة.. حظ عاثر.. هذا السائق مرة أخرى.!.. استطاع بالأمس أن يجعلني أسب وألعن –في سري طبعا- الظروف والناس والضمير إلى آخر قائمة تداعيات المعاني.
انهد حيلي فوق أقرب كرسي.. في هذا الميني باص ومن جراء هذا السائق.. بصمات الأمس يئن بها جسمي.. كان الزحام في الذروة.. المحطات تضيق بالوقوف.. العرق يلهب الوجوه.. الأتوبيسات الكبيرة في أقصى تمايلها.. أبوابها تطفح بالكم الرهيب الزائد من البشر.. قلت:
- لا منقذ اليوم سوى الميني باص.
جلت بعيني داخله.. لم أعثر على مكان خال.. لماذا توقف إذا.؟
الإجابة عن سؤالي أملاها عليَّ السائق.. توقف مرة، ومرة.. تقاطر  إليه الناس.. تحول إلى أتوبيس عادي مليء بالبشر الهاربين من لفحة الشمس.
قال أحدهم:
- أفضل ألف مرة من ذلك العملاق المخنوق.
قال آخر:
- كله مكسب.. لهم نسبة في الأرباح.
ضحك السائق وتمايل بمقود سيارته وهو يردد في سعادة:
- يا ناس يا شر كفايا قر.
تأففت كثيرا كلما تزحزحت عن مكان أدبره لنفسي.. زغدني أحدهم.. دهسني آخر.. رشقت إحداهن كعب حذائها في شرابي.. اشتبك خاتم أخرى في شعري.. تنازل أحدهم عن مكانه.. جلست.. تكومت الحقائب فوق ساقي وحتى عنقي.. سقطت فتاة فوقي واعتدلت.
اليوم يختلف.. نصف المقاعد خالية.. ترى ماذا يقول السائق في سره الآن.. حظك من السماء.. ثلاثة دفعة واحدة.. رجل وامرأتان.. ثلاثة أعواد من القصب لفت في أثواب لفحتها الشمس طويلا.. الوجوه نالها حظ الأثواب من البلى.. صعدوا درجتي الميني باص في بطء يسند أحدهم الآخر.
اندلقت المرأتان فوق أقرب مقعدين وهما تترنحان.. وقف الرجل يقلب في صدر جلبابه ذات اليمين وذات الشمال.. يغوص بيده لمسافات طويلة عدة مرات.. في كل مرة يعود بصيد هزيل.. شلن .. عشرة قروش.. شلن.. بين كل صيد وآخر يسعل بضعف.. رتب الأوراق في يده.. تقدم من إحدى المرأتين صائحا:
- هات بريزة يا بت.
ناول السائق الثلاثين قرشا، تفرس السائق في وجهه.. صاح في حنق:
- التذكرة الواحدة ب25 قرشا.
بهت الرجل:
- إيه.. غريبة.. كل مرة أركب ببريزة.!
نفخ السائق:
- يابا ده في الاتوبي الكبير.. هذا اسمه الميني باص..
- قومي يا بت انت وهي.. وقف يا اخويا الله يسترك لما ننزل.. ربع جنيه قال.!
- يا عم احنا غلابة.. رجعين من معهد غسيل الكلى..
- افتح الباب افتح ربنا يفتح عليك.
زغرد قلبي شماتة في هذا السائق الطماع وأنا أرى صيده الثمين يفر من شباكه.
لم استسلم طويلا لهذا التشفي صكت أذني عبارة السائق:
- اقعد يا عم .. اقعد.. ربنا يشفينا جميعا.. محطتين وننزل كلنا.
****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق