الأحد، 18 نوفمبر 2012

واكتحلت عين الشمس


واكتحلت عين الشمس

المدينة خلية نحل.. لا تمل العمل.. تجهيزات تجهيزات.. يعدون لاحتفال الليلة.. عيد جديد.. عيد الأعياد.. تعلق زيناته في كل حنايا وزوايا المدينة..
التليفزيون أعلن بمناسبة الوصول إلى القمة عن ابتكاره لعيد جديد تشارك فيه جميع الطوائف.
الناس في فرح اليوم.. المسارح تستقبل جمهورها بالمجان.. الملاهي تقدم فنونها، وتسقى خمرها بالمجان.. الحوانيت تبيع بضاعتها الليلة بالمجان تاركة أبوابها متثائبة حتى الصباح.. المسابقات والأحاجي.. ألعاب التسلية وخفة اليد كلها في الشوارع.
الليل ملفوف بالصراخ والضجيج وارتطام الكئوس بالكئوس.
الطراطير تيجان الجباة.. الأقنعة تحجب الوجوه.. أمواج من البشر.. كرنفال من الزينة.
أسرة الحجاج توفيق تقر في منزلها بصحبة التليفزيون.. أسرة مكتظة باللحم.. القابعون بالمنزل لهم نصيب وافر مع الشاشة الصغيرة.. وعدتهم المذيعة الفاتنة بأن تطوف بهم أنحاء المدينة.. فتنقل لهم من المسرح، ومن الشارع ومن الملهى ومن عندها.
أسرة الحاج صلاح ضيف على تليفزيون جارهم الحاج توفيق.
التصقت الأعين بوجه المذيعة:
- سنبدأ احتفالنا بجزء من مسرحية "الدهول" لبطلكم المحبوب سالم بهجت الذي أضاف إلى المسرحية خمسين ضحكة جديدة احتفالا بالمناسبة السعيدة.
الحاج صلاح يتنحنح:
- غيروا القناة.
في الملهى ترن ضحكات سهير حشمت.. يستمد وسطها التواءاته من نغمات حالمة سارحة في حنايا المكان و.. من تمايل الرجال عليها.
يستخي الحاج توفيق في مقعده وهو يشير لابنه:
- اقلب يابني.. الجديد اليوم نراه في الشارع.
في الشارع التقت المذيعة بفريد عوني نجم الصحافة المتهافت على خبايا المجتمع، يحشو بها بطن أوراقه وفي الصباح يجتر الناس ليلتهم المبهجة من خلال الصحيفة.
لم ينس الصحفي الألمعي أن يصحب معه المصور الخاص فتكون وثائقه مدعومة وليست مزعومة.
تتأفف إصلاح زوج الحالج صلاح:
- ماذا يعجبك في هذا الرغي الفاضي..الاحتفالات في الملاهي!
في الملهى لاتزال سهير حشمت تحلق.
تستدعي رتيبة زوج الحاج توفيق بسمة تجامل بها ضيفتها:
- تعبنا من المغص الكلوي.. المسرحية أفضل.. نريد أن نضحك.
في المسرح يتوقف سالم بهجت عند فاصل ليلقي بنكاته على المتفرجين.
يضحكون قبل أن يكملها، وقبل أن يبدأها:
- واء .. واء.. الشارع .. الشارع..
- حتى للأطفال رأي.!
عدسات التليفزيون لها ألف عين.. تجوب الشوارع.. تقتحم الأذقة.. تعود وتقفز إلى الميدان.. الناس على سجياتهم.. خليط: الرؤس والألوان.
ابن الحاج توفيق يشد جلباب والده:
- لماذا كل هذه الاحتفالات يا أبي؟
- وصلنا في العلم إلى القمة.
- المواصلات مزدحمة؟
- مصنعة على أحدث تكنولوجيا.
لا يقل فضول ابن الحاج صلاح:
- يهز والده:
- والمدارس مزدحمة.. لم يقبلوني إلا في الفترة الثالثة.
- تقدم.. !! المدارس غاصة بالمثقفين.
- لكن..
- أصمت.. جاء دور الساحر.. لديه خفة يد جلا جلا، وعل المكشوف.
إصلاح تصيح:
- عد بنا إلى الملهى.. أشواق ستغني الأن.
رتيبة:
- المسرحية أفضل.. فرصة نشاهد سالم بهجت بالمجان.. ثمن تذكرته خمسمائة جنيه..
الأولاد يصيحون بآراء متضاربة:
- لا نحب هذه القناة.
- الأفضل الشارع.
- المسرح أهم.
- واء.. واء.. أريد الساحر.
- اصمتوا يا أولاد تصدعت رؤسنا.. التلفزيون وشوش.. تسابقت العائلتان إلى الشرفة:
- من هنا نرى الاحتفالات على طبيعتها.. نطقت الشاشة.. أسرع الجميع إلى أماكنهم.. راعهم ارتباك المذيع.. أصغوا إليه:
- العطل خارج عن إرادتنا.. أعدنا الإرسال بعد جهد كبير لأهمية الحدث.. ضممنا القنوات توفيرا للطاقة.. التليفزيون يضاء الأن بمولدات كهربائية وبطاريات.. فكما ترون الأن على يمين الشاشة.. كتلة هائلة من الدخان تتوسط سماء المدينة.. التقطتها عدساتنا رغم قتامة لونها وسيطرتها على ضوء القمر.
ننتقل الأن إلى مركز أبحاث الفضاء يدلنا على كنه الجسم الغريب ومصدره.
دب الفزع في نفوس المشاهدين.. التقت عيونهم في حيرة.. استقرت على الشاشة:
في المركز التف العلماء بسرعة حول مائدة الاجتماعات الطويلة جدا ذات الغطاء الأخضر.. التقريرات في حيرة بين الأيدي.. الهمسات قبل التصريحات عرف مسلم به.. تصريح المركز يقول:
- لا خطر على الاطلاق.. أبخرة تصاعدت وتجمعت في كتلة واحدة.. سببها عادم السيارات والقطارات والاستعمال الإشعاعي.. لن يكون لها أثر في الصباح.
افترت الشفاة عن نصف ابتسامة.
كاميرات التليفزيون تعود لتكمل الاحتفالات.. مسرح "البنبون" يستقبل آلاف المشاهدين.. المذيعة تائهة في الزحام:
- أووف.. ما هذه الزحمة؟ دجاج في حظيرة.؟!
ملهة "النيون".. رقص وغناء.. لهو ومرح.. الكاميرا الأن مسلطة على الفلكي الشهير يتنبأ بالمستقبل:
- لا حزن بعد اليوم.. لا قلق .. غدا نجني ثمار الحضارة والتكنولوجيا.. ستخمد الحروب في الصباح ويتم الصلح بين الإخوان.. سوف نعيش في مدينة هادئة هانئة.. أهلها سعداء.. لا أحد بعد اليوم يبيت جائعا.. سوف نجد الحل لكل المشكلات ونرتاح من عناء البدائل.. الأرض خضراء.. الأسواق عامرة.. الأطفال يضحكون.. حب، هناء، إخلاص.
المدينة تسبح كالنسمة فوق بحر السعادة.. الصحف لا تحمل إلا أخبار الزيجات السعيدة وصور المواليد الجدد.
اختفى الفلكي بحر من التصفيق.. وجه المذيعة الوردي يعلن:
- ننتقل ثانية إلى مركز أبحاث الفضاء.. ماذا تم بخصوص الجسم الغريب الذي اقتحم سماءنا.
عالم يقرأ:
- السحابة السوداء تتمدد.. تتضخم.. غطت سماء المدينة بالكامل.. رغم أنه قد تبين الخيط الأبيض من الخبط الأسود من الفجر بحسب ما تشير إليه ذراعا الساعة، إلا أن الضوء لا ينفذ من خلالها.. لا خسوف .. نأمل أن تذيب الشمس الحارقة جسمها الداكن.
عاد المرح.. علا الضجيج والغناء.. تشنجت الراقصات.. لعبت الخمور بالرؤوس.. همدت الاجساد.. امتزجت بالنوم.
التليفزيون:
- سادتي.. قرر مركز أبحاث الفضاء ارسال مركبة فضائية لأخذ عينة من النسيج الأسود وفحصها معمليا.
- خ... خ.....خ.
 سادتي:
- الشمس الأن في كبد السماء.. ولم يظهر ضوؤها ولم تنفذ حرارتها.. غطت السحابة جميع منافذ المدينة ولاتزال تتمدد.. أيها السادة الذين تغطون في النوم.. مدينتكم تغط في العتمة.
- خ... خ.....خ.
- أيها السادة النيام انهضوا.. اطردوا الكسل.. انتصف النهار ولم تظهر بادرة أمل.
الأجسام تتململ.. الأفواه تتثاءب.. الأهداب ترتجف.. يرمق بعضهم البعض، تذكروا البارحة تبسمت الشفاة في كسل.. تمطت الأجسام في تراخ.. تساءلت العيون:
- ألا نزال في الليل.؟
ينتبهون لصوت المذيعة تزعجهم كلماتها.. يسلخون أجسامهم من الأرض.. يبحثون عن الشموع.. الطعام.
الليالي المظلمة تتـتابع.. امتلأت الصدور بالتنهدات.. اتسعت الحدقات:
- وماذا بعد؟
الشموع: ذابت.. الوقود: نفد.. القوت: نضب..
التليفزيون:
- مركز الأبحاث يطمئن الجميع:
- البحث مستمر.. مازال كنه السحابة غامضا حتى الآن.
- سادتي:
- التقطت عدساتنا شيئا غريبا.. سرب سابح في الفضاء.. الطيور تهاجر.. إلى أين؟ تطاولت الأعناق.
- ردد الصغير:
- لو كنا عصافير.. كنا طرنا معهم.
- التليفزيون:
- فرار أخر سادتي.. نظمته فصيلة المواشي.. أفرادها: بقر ماعز جمال قطط.. كلاب.. حمير.. الشاشة تتابع المرتحلين.
أيها السادة.
- هروب ثالث.. أفراده من الرجال، النساء، العيال، العواجيز..و...
- اتحد فرار البشر بالحيوان الحمير في المقدمة.. أرى جرة في الجانب الأيسر من بقجة الحمار الأيمن، وبلاصا في الجانب الأيمن من بقجة الحمار الأيسر.. الحمار الخلفي متدلي الأذنين يدفع رجليه الأماميتين برجليه الخلفتين.. نساء على ظهور الجمال والبغال، وجوههن إلى الأمام  وظهور الرجال ملتصقة بظهورهن.. العيال على أكتاف النساء.. الأغنام في تكتلات بلا راع.
الحاج توفيق:
- هيا بنا وراء الحمير.. كل من يقدر على حمل شيء.. بطانية.. حلة ويسرع بالفرار.
صلاح:
- أنا أشيل التليفزيون.
سادتي:
- اختلط الحابل بالنابل.. أصبح من الصعب التفرقة بين عدد الحمير والآدميين.
الشباب يتحملون عبء السير على الأقدام.. يدفعون موكب الذين تتدلى أرجلهم.. يغرسون عصيهم في أجساد الحيوانات.. يدفعون بأيديهم.. يشوطون بأرجلهم.. الموكب متخبط بالظلام.. أرجل المواشي تدق الساقطين.
مر يوم، ويوم، ويوم.. لا أثر للطير.. سبق بخفته.
ستة أيام ولم يظهر الضوء.. حمامة عائدة بفرع أخضر.. كبَّر القوم:
- الله أكبر.
دب النشاط بأبدانهم.. أسرعوا الخطو.. يوم آخر وحطو الرجال.
سادتي:
- هناك على مسيرة أسبوع أرض جديدة.. لم تحدد عين الكاميرا مداها، أشعر بشمسها الساطعة ونسيمها المنعش من انتعاش الأبدان وانفراج الأسارير.. القوم يدورون في سعادة ويرقصون في طرب حول عين ماء صافية.. ينكبون فوقها.. الشرب حتى الاغماء.. الحيوانات تتراقص.. الطير يحلق.. يغرد.. هدأ الجميع فوق وتحت الشجيرات المتناثرة على مسافات.
سادتي:
- يامن رفضتم الهجرة وبقيتم في ظل السحابة السوداء تحتضنون أمتعتكم، وأموالكم وتحرسون عقاراتكم.. نطمئنكم أن مركز أبحاث الفضاء لا يزال يكثف جهوده ولا يزال رجاله ملتفين حول مائدة المباحثات الطويلة جدا ذات الغطاء الأخضر.
سادتي:
انتبهوا شيء جديد بدأ يزحف نحو المدينة المظلمة.. البرودة.. التجمد يثبت الأشياء والناس.. المدينة صارت كمتحف الثلج.. هنا تجمد و.. هناك على مسيرة سبعة أيام الدفء.. الحركة.. الفرحة.
سادتي:
-  أرى النساء والرجال يتعاونون في نشر الملاءات والبطاطين على أحبال مثبتة في أوتاد.. الأرض الجديدة امتلأت ببيوت قطنية وصوفية.. بيوت تحميهم من حرارة الشمس وبرودة الليل، وأعين البعض.
استقر الناس داخل مساكنهم الجديدة، في هدوء نامت كل أسرة تحت سقفها.
ضغط ابن الحاج صلاح بطنه صارخا:
- جعان.
ربتت أمه على ظهره وهى ترمق زوجها.
- ما العمل؟
نهض الرجل.
- لا وقت للانتظار.. الطعام يخصنا جميعا.. هيا نهجم على الحيوانات نشرب لبنها.. نذبحها ونشوي لحمها.
- جاموستي.
- بقرتي
- عنزتي.
- اطرحوه أرضا.
- دقيقي.. خبزي.
- ابتعد عن طريقنا.
سادتي:
الصراخ ملأ المكان الجديد.. انتصر الجوع.. أريقت دماء البقر.. الأسنان تطحن، والأيدي تمزق.. خفت الضوضاء.. تسطحت الأبدان فوق الأرض الرملية.. لسعتهم أشعة الشمس.. زحفوا من جديد نحو أسقفهم الصوفية والقطنية، لا يزال اثنان خارج الخيام.. شاب وفتاة يتبادلان نظرات حانية، تشابكت أصابعهما:
ما رأيك يا سامي.. نبحث عن شقة منذ خمس سنوات.. ملاءتان وبطانية وتكون لدينا الشقة.
- هذا رأيي.. خشيت أن ترفضي.. هيا نمبني بيتنا وندعو القوم.
التليفزيون:
- الأرض الجديدة تشهد أول عرس.. زفاف سامي وهدى.. الكل في فرح تلقائي.. صورة حية لفطرة الإنسان.
- المدينة الميتة التي يخيم عليها الشبح الأسود تحكي صورة مغايرة.
- أيها السادة:
مركز أبحاث الفضاء أغلق أبوابه عليه.. استمد دفئه لاسلكيا باتصاله بالعالم الخارجي.. العالم الخارجي يمده بالغذاء المحفوظ، والضوء المحفوظ، والدفء المحفوظ  وأيضا بالمعلومات المحفوظة.. هذه المعلومات تقول:
- حدثت ظاهرة مشابهة منذ آلاف السنين.. الحضارة تصل إلى القمة وتنهار.. وتعيد الحياة دورتها من جديد.
المذيعة الفاتنة:
ما رأيك سعادة العالِم أيكون هذا هو التحنيط الذي نبحث عن سره.. الأشياء تجمدت بصورة بديعة.. الخيمة السوداء هى الغطاء الذي يحمي الأشياء من الفساد.. صارت مدينة من مدن الأساطير أو مدينة أثرية سوف يعثر عليها بعد آلاف السنين ضمن الحفريات.
العالم:
احتمال وارد.. لكننا حتى الآن لم نثبت صحته.. الأيام القادمة تبشر بحقائق علمية مذهلة.. قليل من الصبر.
سادتي:
الناس في الأرض الجديدة لا تعرف الصبر.. ينقضون على البهائم.. يتطلعون للعودة:
ترى هل الناس في الأرض الجديدة قد أحسنوا التصرف.؟
لا نظن.. لا يزالون في حيرة.. يتطلعون إلى العودة إلى مدينتهم الخربة.. البهائم تسرح في الأرض بلا هوية تبحث عن قوتها.. أعدادها في تناقص.
- ما العمل.. سنقضي على البهائم ثم نموت جوعا، أو يأكل بعضا البعض.
- ماذا ترى يا حاج توفيق.؟
- ننظم بعثة منا تتجه إلى المدينة التي هجرناها تستطلع الأمر.
- فكرة صائبة.. من يتطوع بالذهاب.؟
سادتي:
نرى سبعة من الرجال يعتلون صهوة سبعة من الخيول، بالإضافة إلى حصانين يحمل كل منهما خرجين لطعام الرجال مدة أسبوع.. تعاون الجميع في تدبيره.
سادتي:
الناس في الأرض الجديدة لا عمل لهم سوى الانتظار والسطو على الحيوان والطير.
أرجل الخيل تنهب الأرض نهبا كلما أرخى الرجال لها اللجام.. العودة من منتصف الطريق.. بدا لهم طرفا الجناحين المخيمين على المدينة.
- لابد أن يأخذ تفكيرنا مأخذا آخر.
- نتأقلم مع الواقع الجديد.
- كيف في أرض صفراء.؟
- نحيلها خضراء.
- أين الآلات.؟
- الأيدي الكثيرة والبهائم.
- لكنا في عصر التكنولوجيا.!
- ما هى صفات عصر التكنولوجيا.؟.. شمسه غير الشمس! أرضه غير الأرض!.. إنسانه غير الإنسان! والإنسان خلقه الله عاريا لا يحمل فأسا ولا سيفا.
- من أين نبدأ.؟
- أعتقد أن حصار ليننجراد يفيدنا اليوم.
- أظن أن تاريخ أمريكا يدلنا على البداية.
- اليابان.. بعد القنبلة الذرية .. كيف نهضت وتحدت العالم.
- انتظرونا يا قوم.. لا ننكر دور العلم والاستفادة من تجارب سابقة.
- ما رأيكم، نقسم أنفسنا مجموعة للعمل، ومجموعة للبحث والدراسة.
- جماعة المزارعين أولا.
- كيف نحصل على الماء.. هذه العين لا تكفي.؟
- نبدأ في الحفر.
- بلا آلات حفر.؟
-     بالأيدي، بالعصي، بالحديد وأغطية الحلل.. و.. !
-     تنحنح فلاح وتقدم في خيلاء:
- معي فأسي.. الفلاح كالجندي لا يمشي إلا وسلاحه فوق كتفه.
-     التليفزيون:
-     أيها السادة المدينة الجديدة تشغي.. أرى شغالة بلا ملكة.. الحفر مستمر بسواعد الرجال والشباب.. الأطفال يحملون أكوام التراب بالمقاطف والحلل.. النساء رتبن العمل فيما بينهن.
الخراف تنام بين يدي المطربة أشواق تجز صوفها وتدندن.
سهير الراقصة تغزل الصوف.. هدى وسامي يقومان بالنسيج.
رتيبة صنعت قربة من جلد ماعز وجلست تخض اللبن.. تحيله زبدا وجبنا.
رجل وامرأة يعجنان التراب بالماء يصنعان فرنا وكانونا.
التلفزيون:
يا أصحاب المدينة الغارقة في الظلام.. من هناك على مسيرة أسبوع جاءتنا صرخة مدوية.. ظهر الماء.. الرقص.. الطرب.. الضحكات.
- كيف نخرج الماء من البئر.؟
- بالمقاطف الجلد.. نعمل شادوفا أو اثنين.
- يعود نصف الماء إلى البئر.
- عشرة مقاطف بدلا من خمسة.. عشرون يدا بدلا من عشر.. الهمة.. الهمة.
الأطفال يحملون الماء بالحلل والأباريق.. يوزعونه على الأرض.. عشرات الرجال يحرثون الأرض بالفئوس ونصال السكاكين.
- الأرض تحتاج إلى السماء.؟
- روث البهائم يا أخي.
- والحبوب وتقاوى الخضر.؟
- في خرج كل فلاك بذور لشيء معين.
ندب أحدهم حظه:
- آه.. استصلحت قطعة أرض كبيرة.. زرعتها مانجو.. كنت على وشك التصدير بالعملة الصعبة لولا السحابة اللعينة.
- دعك من التحسر على الماضي.. لا نحتاج للمانجو.. الخبز أولا.
التليفزيون:
- مركز أبحاث الفضاء لا يزال مجتمعا حول مائدة المباحثات الطويلة جدا يكتب التقارير.. يجهل كنه الجسم الغريب.. الأرض الجديدة تشهد أول حزن لها.. مات أحد شيوخها العلماء.
- تنبهو.. سيندثر العلم.!
- مدارس.. كتاتيب.
- مجموعات تحت الشجرة.
- من تعلم علما.. يعلمه لغيره.
الصغار يقبلون على تحصيل العلوم بنهم وشغف.
سادتي:
كل شيء في الأرض الجديدة يترعرع.. الحقول غزتها الدماء الخضراء.. عيون الأولاد لمعت بالعلم.. البيوت من الطوب والحجارة.. للبهائم حوائط تحميها.. الأجسام برونزية فولاذية.
سادتي:
 لا تزال فكرة العودة تراود البعض.. يحيون على ذكريات اللهو والغنى.. بعثة أخرى في الطريق.. وصلت مشارف المدينة.. مصرة على اقتحام الظلام رغم تعثرها بجثث الناس والأشياء المتجمدة.. وجهتها مركز أبحاث الفضاء.. ننتقل الآن بالكاميرات.. نسجل أعظم حدث تاريخي.. لقاء الوافدين بالعلماء.. الوافدون بحمرة وجوههم وقوة أجسامهم.. العلماء وجوههم شاحبة لم يغادروا أماكنهم منذ عام.
بالله ماذا نرى.. تبدلت سحن رجال المركز.. وهنت أجسامهم.. شابت رؤوسهم.. شاخت أرواحهم.. لا يزالون في أماكنهم حول مائدة المباحثات الطويلة جدا ذات الغطاء الأصفر.. ومازالوا يكتبون التقارير.. استقبلوا أهل البعثة مرحبين.
بيد مهتزة يقدم أحد العلماء خلاصة التقارير.
- التقارير لا تحمل جوابا شافيا.؟
- كلها ارهاصات وتخمينات.
- لكنها محتملة.!
- مركبة فضائية من كوكب آخر.. جاءت بهدف التعارف.. ضخامة جسمها سدت عين الشمس والقمر والسحاب و.. قطع الارسال.
- احتمال.
- ذنوب الناس.. أبخرة الدم المسفوك.. لهيب الحقد .. الفسق.. الفجور.. كلها تجمعت فوق رءوسنا.
- بقايا الإشعاع ومخلفات الذرة أخذت طريقها إلينا.. تفرق على الناس بالتساوي وبال ما صنعت أيديهم.
- احتمال
التليفزيون:
النقاش على أشده هاهو ذا يتوقف فجأة.. يصغون لصفارة أحد الأجهزة.. الطنين يخبرهم:
- السحابة تنحسر.. بدأت تدمع.. الضوء يعود .. المطر يعيد الحياة رويد رويدا على جبين الأشياء.. عدا البشر.
البعثة تعود بالأخبار السارة.. يستقبلها القوم بالتهليل والتكبير:
- حمدا لله.. مدينتان بدلا من واحدة.
- لكم الخيار يا قوم.. من يرد البقاء فليبق.. من يرد العودة فالمدينة تفتح ذراعيها.
- الناس يتبادلون القبلات والأحضان، يشيعون بعضهم البعض بالغناء وتلويح الأيادي.
في المدينة اللهو والخمور والأضواء.
في الأرض الجديدة الجهد والعرق والكفاح.
و.. لا يزال مركز أبحاث الفضاء يكتب التقارير.
و.. التليفزيون يبث.
****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق