في البساتين
:
الليل يخيم بجناحين
ثقيلين.. الهدوء المميت يرسل قشعريرة.. تدب في جسد مدحت.. تسحقه.. يتلفت حواليه..
الجدران تخنقه.. فرغ لتوه من معالجة زوجته.. هاهي ذي طريحة أمامه إثر حبتين
للمنوم.. وجهها البريء يحتفظ ببعض انزعاجه.. ما حدث ظهر اليوم كان كفيلا بأن يعبر
الحائط الفاصل.
جلس مدحت قبالتها..
يحدق بعينين ألهبهما الذعر.. عبر ذهنه الجدار وكل الجدران.. راح يغرق مع معين
الماضي.. القصة الآن حية بكل تفاصيلها.. قصة البحث عن شقة مدة ثلاث سنوات.. أوشكت
المشكلة أن تفرق بينه بين خطيبته.. زوجته مع إيقاف التنفيذ.. في قمة يأسه جلس تحت
يد حلاقه.. مستمتعا بعبث أصابعه، كان الرجل يضم فروة الرأس بكلتا يديه ويرسلها..
تفتق ذهنه بالتدليك الطبيعي.. استنكر الفكرة في أول الأمر.. عاد وتحمس لها.. انتشى
في مقعده .. هتف:
- رائع.!
- يجرحك المقص.
استكان بأمر
الحلاق.. تململه أنهى المهمة بسرعة.. قفز يشكره.. غادر المحل.. تسبقه خطواته إلى
بيت عروسه.. لم يرفع يده عن الجرس.. فتح الباب.. اندفع داخلا:
- أين زوجتي.؟
منال.. منال.
- ماذا حدث.؟
- ارتدى ملابسك
بسرعة.. مفاجأة لم تخطر على بال.. هيا.. هيا.
عند محطة الأتوبيس
تشاغل بلحن يعزفه بفمه.
"هى دي هي فرحة
الدنيا.. دق يا قلبي غني يا عنية"
دفعها داخل الأتوبيس
قبل أن تتمكن من قراءة الجهة التي يقصدها.. البساتين.. تشاغل مدحت بالتحديق في
السقف.. لم تستطع صبرا.. لكزته في ذراعه:
- إلى أين.؟
- البساتين.
- حدائق.. نتنزه بها.؟
- مساكن نزورها..
هناك يقطن أبي وأخي الأكبر.
- توفى والدك منذ
زمن وكذلك أخوك.؟!
- هذا صحيح..
أسكناهما منزلا رائعا.. بناه والدي بنفسه لنفسه.. استبدل معاشه.. اقترض من
المقربين.. ضيق علينا حتى يتمه، هو الآن يتمتع بأجمل وأرحب بيت.
- بيت أم مدفن.؟!
- سيان.. بجوار
المدفن حجرتان وصالة ودورة مياه.. لعبت في فنائه كثيرا كلما اصطحبتني أمي لزيارة
والدي.
- ماذا ذكرك بزيارة
والدك اليوم.؟
استطرد:
بعدها مات أخي في
حادث سيارة.. أرقدناه بجوار أبيه ورعايته.
- لم تجب.؟ ما الذي
ذكرك بهذه القصة.؟
- أريد أن أكون في
جوار أبي ورعايته.
- تموت.؟!
- أعيش.
- كيف يعيش الأحياء
مع الأموات.؟!
- الضرورة.
- وأنا.؟!
- معي.
ماذا.؟!
لم يعطها فرصة أخرى
للكلام.. جرها كالمنومة إلى باب المدفن.. نادى بأعلى صوته:
- يا عم صالح.
هرول رجل مسن..
لحقته غبرة انقشعت عن وابل من الأطفال.
أهلا.. أهلا.. أبن
الغالي.
- أهلا بك يا عم
صالح.. من كل هؤلاء.؟
- أولا ابني محمد..
صديقك القديم.. ألا تذكره.؟
- أذكره.. أذكره يا
عم صالح.. لعبنا كثيرا في صبانا.. كان أعظم مرشد سياحي بين الجبانات.. أين مفتاح
الجبانة يا عم صالح.؟
- موجود يا ابني..
تفضل ورائي.. تفضلي يا بنتي.
- زوجتي يا عم صالح.
- زينة.. ربنا
يحفظها.
- ما رأيك يا حبيبتي
في المكان.؟
- المكان.؟ أي
مكان.!!
- هذا المكان..
غرفتان وصالة.. لا مثيل لهم.. سوف أصلح ما عطب من الحيطان وأطلي الجدران وأضع لك
القيشاني في الحمام.
- أتهذي.؟!
- الهواء هنا منعش..
الشمس ساطعة.. المياه متوفرة.. المواصلات قريبة.
- فقدت عقلك.؟
- وجدت عقلي.. تذكري
تسرب أحلامنا حلما وراء حلم ولا فائدة.. تذكري البادروم الرطب المظلم الذي وافقنا
عليه لشدة يأسنا ولم يرض هو بنا.. وتذكري المشكلات الكثيرة من جراء هذه المشكلة.
تقدم عم صالح يحمل
صينية الشاي.. تسبقه ترحيباته الكثيرة.. لقلة حركته استقبله مدحت.. تناول منه
الشاي مخاطبا إياه وهو يغمز له بطرف عينه:
- ما رأيك لو نسكن
هنا يا عم صالح.؟
- خير ما تعمل يا
ابني.. محمد ابني ساكن هنا.. ولاده كما ترى يجرون طوال اليوم بلا ملل .. المكان
فسيح والهواء يرد الروح.
- كفى.. كفى..
تخرفان.
أطلقت صرخاتها و..
اندفعت خارجة.
أمضى مدحت أسبوعين
تحت حد اللوم.. كيف فكر في المستحيل..لكنه لم ييأس.. انفرد بعروسه وظل يروِّضها
ويرغبها وهى كطائر مجروح.. يمنيها بعدم دوام الحال.. وهى بين كبريائها المجروحة
وحبها المذبوح تستنزف ريشها.. طوت جناحيها –المن والسلوى- نطقت:
- فلنجرب.!
الأيام التالية
تميزت بالنشاط وسرعة الانجاز.. أخيرا ضمهما البيت الجديد.
تضايقت منال في أول
الأمر وسرعان ما تأقلمت مع المكان.. والجيران.. فجارتها زينب زوجة محمد بن عم صالح
تعاونها في تنظيف البيت وشراء ما يلزمها من السوق.. أدركت بفطرتها بعد مدة وجيزة
ما ترفل فيه من نعيم.. فقد حصلت على معضلتي هذا الزمان.. المسكن والشغالة.. تناست
لحين إلحاحها في ضرورة البحث عن مكان آخر.
وتأتي الرياح بما لا
تشتهي السفن.. ما أن أنست منال للحياة الجديدة.. وطاوعت رغبتها في تفقد المكان
والتعرف عليه، وكانت لا تغادر غرفتها.. إذا بصرخة ملتاعة تشق الهدوء لتستقر في
سمعها وقلبها معا.. صرخة ثانية وثالثه.. امتلأت الأجواء بالصراخ.. أطلت برأسها..
وقع بصرها على ذلك الصندوق الذي نعرفه تماما ونرتعد منه.. والذي لا يتخيل الانسان
نفسه ممددا بداخله، رغم تأكده من حدوثه.
ظل الصندوق المحمول
على الأكتاف يقترب وخلفه المشيعون بالعويل والتشنجات.. وظلت ترتعد وترتعد.. استقر
الصندوق في المدفن المجاور، واستقرت هي على الأرض.
تبادل مدحت وأسرة عم
صالح رعايتها حتى عادت إلى وعيها.. ثم راحت في نوبة جديدة من البكاء مع انتفاض
جسدها بشدة حتى تقطعت أنفاسها.. ناولها حبتي المنوم وجلس قبالتها.. يعيد حساباته..
يخمن ما سيجره عليه هذا الحادث من مشكلات.. أخذه التفكير الطويل.. أنهك ذهنه..
ثقلت جفناه.. فانطبقتا.
انفرجا على ابتسامة
هادئة ووجه مطمئن.. وصوت زوجته:
- لماذا لم ترقد في
فراشك.؟
- خشيت عليك.
- من أي شيء.. ألم
نر هذا المشهد مئات المرات.؟
- ولمَ كان الفزع
والاغماء.؟!!
- فقط لأنها المرة
الأولى التي يولي فيها وجهه نحوي.. أراه وهو ينزلق إلى رحم الأرض مكمما مقيدا
مضطرا..
-
...........................؟!!
- أما اليوم فقد زاد
جيراننا واحدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق