الاثنين، 19 نوفمبر 2012

اللوحات الثلاث: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


اللوحات الثلاث
:
- ماذا تقصدين.؟
- كما سمعت.
- وما السبب.؟
احتفظ به لنفسي.
- ليس عدلا.. أريد أن أعرف جريرتي.
- بعدما أعرف جريرتي.
- والحل.؟
- سأذهب إلى بيت أهلي لفترة.. ربما أعرف.
غادرت راندا بيتها.. تركت طفلها يصيح من ورائها.
- ماما.. ماما.
سندت قلبها بيديها و.. مضت.. اختنق صوت الزوج فمات على شفتيه.. أخفت دموعها.. واصلت الرحيل.
شيء واحد هو الذي كان يخيفها أن يتمادى الفشل.
في حجرتها القديمة.. في بيتها القديم.. بيت أبويها كانت خلوتها.
قبلتُها لوحة معلقة على حامل.. مسبحتها شريحة صغيرة معكوفة تضع فوقها عجائن الألوان و.. مضت في صلواتها.. تأملاتها.. ترسم.. وترسم.. تستبدل لوحة بيضاء بأخرى ملونة.. سرعان ما يذوب بياضها وسط الألوان التي تضعها بشروط درستها، وبفن نشأت عليه وملك عليها مشاعرها منذ طراوة الطفولة.
لوحتها الأولى: (أمومة)
طفل يبكي.. يمد ذراعيه إلى أمه الهاربة.. تكاد تسمع بكاءه.. يعلو في ضميرك صوت الشفقة.. تمد يديك تمسح دمعته، تحمله.. تنكمش يداك فجأة.. إنها صورة.
لوحتها الثانية: (فنان)
يجلس بين ألوانه ولوحاته .. يبحث عن ريشته.. كانت هنا.. لن يستطيع البدء بدونها.. تدور بعينيك تبحث له عن الريشة.. تجدها هناك.. لا تقدر أن تردها إليه، ولا أن تدله عليها.. هو وهى أصباغ.
اللوحة الثالثة: (فشل)
فتاة تائهة.. ماضيها أعصير ورعود.. مستقبلها ضباب وغيوم، تحاول أن تصعد سلما مليئا بالحجارة.. يؤلمك لهاثها.. تأخذك الحمية لمساعدتها.. زحزحت الحجارة عن طريقها.. يعترضك الواقع.. كتل من الألوان مكومة بمهارة فائقة.. تضافرت الوحدة والوجد في اتقان كل شيء صنعا.
وجاء موعد المعرض.. سوف تتقدم باللوحات الثلاث.
في رأسه يدور سؤال.. لماذا خذلته.؟
تركت له كل شيء، ولم تترك له أي شيء.. مادامت ليست معه تائه هو وطفله.
برنامجه اليومي الآن بين الغسالة والمطبخ، وارضاء الصغير و.. هجر المرسم.
عينا راندا تمسحان الجرائد ترتدان خائبتين حسيرتين.. لأول مرة تخلو صفحة الفن منك أخبارك يا ماهر.. كان فنك في المقدمة دائما.. تراني السبب.. تراه مريضا.. أم طفلنا.. ربما لا.. سأراهما.. الفوز أولا.
في انتظار الفوز قضت أياما قصيرة طويلة.. الفوز.. نعم لابد منه ثمن الحرمان من الحب والأمومة.. أربعة أشهر كاملة.. لوحاتها في المقدمة أشاد النقاد والمتذوقون.
النجاح حلو.. لولا المرارة التي تشعر بها، والغصة التي تفسد عليها لذة النصر.. لا معنى للانتظار، أسرعت الخطى.. انفرج الباب عن وجه حزين.. عيون حمراء مسهدة.. ملابس مهملة.. يا إلهي.. هل هذا زوجي.؟
-       أكنت مريضا.؟!
-       لا.
-       أصيب طفلنا بمكروه.؟!
-       لا.
اندفعت داخل الشقة تنادي طفلها.. كل شيء تغير لونه.. الأتربة فوق الموبيليا والمقاعد.. قطع ثياب متناثرة.. البقع تملأ الأرضيات.. ووسط كل هذه الفوضى طفل يلهو.
-       تامر.!
-  التفت.. صرخ.. جرى إلى الخلف.. ثبت نظراته عليها.. تسمرت أمامه مادة ذراعيها.. رويدا.. رويدا انسلخ من قبضة الخوف.. جرى إليها:
-       ماما.. ماما.
-       تذكرتني يا حبيبي.!
ضمته.. كسبت الجولة الأولى.. علقت ناظريها على والده.. زوجها.. حبيبها.. قالت النظرات:
ماذا بك.؟
هل يرضيك ما نحن فيه.؟
انفرج لسانها:
- فزت في المسابقة بثلاث لوحات.
أجاب:
-       وما ترينه هو الثمن.!
-       كل فوز له ثمن.
-       تضحين بنا.؟
-  رعايتكما كانت السبب في فشلي في مسابقات عديدة.. الفن حياة، كيان.. والفشل دمار.. نار تأكل صاحبها.. أنت لم تجرب الفشل.
-       وأردت أن أجربه.؟
-       لا.. أردت أن أجرب أنا الفوز.. لكنك لم تفعل ما يحققه.
-       لم تطلبي شيئا.
-  وأنت لم تطلب.. لكنني قدمت.. كان فوزك يلي فوزا آخر وأنا أشجعك.. وسألك صحفي:
-       لمن ترجع الفضل في تفوقك.. أجبت : للعرق.. للسهر.. للجهد المتواصل.
- نسيتني تماما.. نسيت لمساتي في كل حنايا منزلنا.. وفيك أنت نفسك.. في ملابسك ومطعمك ومشربك.. في ابنك الصغير النظيف الذي تسرك رؤياه.. لم أقدم لنفسي إلا التخفي وراء ظهورك، ونسيت أنني من أوائل دفعتي.. ولم ترعني كما ترعى فرشة ألوان.
-       أردت أن أذكرك بي.. أتلومني.؟!
-       أردت أن تجرب نوعا آخر من السهر والجهد المتواصل لا يحقق فوزا.
-       لم تغضبي .. تثوري.. تطلبي المشاركة.
-       وتلتهم المناقشات عمرينا التهاما.. وهل أبلغ من أن تحتسي كأسي.
-       ما خلتك بهذه القسوة.!
-       وما خلت نفسي.. قسوت على نفسي قبلكما.. لم يكن بعدي عنكما هينا.
-       وإلى متى يستمر البعد.؟
-       انتهى الآن.. بفوز لوحاتي.. باستعادتي ثقتي في نفسي.. أما المستقبل.
تناول يديها.. نهضا معا.
-       النجاح والأعباء قسمة بيننا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق