أبلة رحيمة
:
كفى..
استكملت زينتك.. سوف تصدق بأنك..
ابتسمت
لما صارحتها به مرآتها.. هزت كتفيها في نشوة.. ألقت نظرة أخيرة سريعة دارت حول
نفسها.. التقطت حقائبها.. أحكمت غلق الباب.. قفزت الدرج الذي ودع منذ ساعة أطفالها
الثلاثة وزوجها.
استقبلها
الشارع الممتد.. استلقى في استسلام تحت قدميها الرشيقتين.. تخطو فوقه بنشاط امرأة
في الثلاثين.. تسلمها الميدان الكبير.. نفضت رأسها يأسا وإصرارا.. انكمشت
أساريرها:
- لا
يهم الضجيج.. يجب أن أراها.
قال
ذهنهاعبارته، وعيناها تتابعان حركة السيارات والبشر.. رأيتها.. لا تغيب ملامحها
مهما اشتد الزحام.. لا تذوب هيبتها من داخلها.
-
أتعرفينني.؟!
تبسمت
في اضطراب.. بسطت يدا مرتعشة.. استقبلتها يد ثابتة.. ازدردت جفاف ريقها:
-
أبلة رحيمة.؟!
اتسعت
ابتسامتها:
-
نعم.
-
أبلة رحيمة العمري.
-
نعم .. من.؟!
-
تلميذتك في الابتدائي.
-
أمازلت تذكرينني.؟!
-
كيف أنساك.!.. لك خط في خريطة مستقبلي.
-
إلام اكتملت خريطتك.
-
دكتو.. دكتو.. دكتورة.
-
ما شاء الله.. سعيدة أن أرى من تلميذاتي الطبيبة.
-
الفضل لك.
-
أشكرك يا............
-
أمل.. أمل هاشم.. أتذكرين.؟
لم يبدو عليها التذكر.. اكتفت بابتسامة مجاملة.. تصافحت
المرأتان.. احتفظت أمل بيدها برهة.
(أظافرها تتحدى الزمن.!.. على حالها من القوة والطول)
سحبت المرأة يدها.. ابتعدت.. تذبل رويدا رويدا.. تلاشت
في حدقتي أمل.. عادت أكثر وضوحا في مخيلتها.
صور كامنة.. لو تعلمت الرسم لحطت من ذاكرتها تلك الصور
في لوحات تعلق أمام عينيها صباح مساء.. الرسم بالذات لم تتعلمه أمل.. أبلة رحيمة
هى مدرسة الرسم، وبطلة الصور.
في الصورة الأولى.. أبلة رحيمة تشد أذن طفلة.. تؤنبها:
- لماذا نسيت أدوات الرسم.؟
-
آسفة يا أبلة.. لن أنسى ثانية.
-
الصورة الثانية.. أبلة رحيمة تغرس أظافرها في لحم طفلة
تحت الابط:
-
أين الموضوع.. لماذا لم ترسمي.؟!
الطفلة تصرخ:
- حاضر.. حاضر.. أرسم.. أرسم.
- الصورة الثالثة.. أبلة
رحيمة تعلق ورقة على ظهر طفلة مكتوب عليها أنا بليدة".. وتصر أن تنزل بها في
فسحة اليوم.. الطفلة تذوب خجلا ويعتصرها البكاء:
-
لن انزل هكذا.. لن أنزل هكذا.
( قسوة.. قسوة تدعى رحيمة.. يجب أن
تموت.. موتي .. موتي)
ظلت أمل تضغط على رقبة أبلة رحيمة حتى انفجرت شرايينها..
واندفع دمها يغطي وجه أمل وملابسها.
-
ماذا جرى يا ست.. ابعدي يدك عن الطماطم.. فعصتها.!
-
الطماطم.!.. آسفة .. آسفة جدا.
لم
تدري كيف وصلت إلى السوق ووقفت أمام عربة الطماطم.. تكرر اعتذارها للبائع.. تناوله
الثمن.
عند
بائع الباذنجان.. لاحق أمل شريط الصور.. يكر في ذهنها.. ابتاعت.. نقدت.. ابتعدت
سريعا.
أمام
محل لبيع الأدوات المنزلية.. أكواب.. أطباق.. لوف.. مرايا.. وقفت تتأمل نفسها:
(هل
صدقت أني دكتورة)
اقتربت
أكثر.. انكمش حجمها في المرآة.. صارت طفلة مذعورة.. تلميذة بالابتدائي عاقدة
ذراعيها فوق صدرها.. جسمها الضئيل ينتفض.. دورها يقترب.. تسألها المعلمة:
-
- ما اسمك.؟
-
أمل هاشم.
-
ماذا فعلت.؟
-
لم أفعل شيئا.
-
لماذا ترتعدين إذن.؟
-
خائفة.. خائفة.
-
لا تخاف إلا المقصرة.
-
لا والله يا أبلة.. لم أفعل شيئا.
تنهار الطفلة.. تغمض أمل عينيها.. تبحث عن البائع..
منشغل عنها.. تتنهد.. تعيد عينيها إلى المرآة.
الطفلة ذاتها تصرخ في والديها:
-
لن أذهب إلى
المدرسة.. لن أتعلم.. لا أحب المدرسة.. لا أحب أبلة رحيمة.
-
لماذا يا أمل.؟ لكي تكوني دكتورة.
-
لا أريد دكتورة.. لا أحب دكتورة.
-
أتعجبك هذه المرآة يامدام.؟
سألها البائع:
-
هاتها.. إنها تقول الكثير.
نظرت إلى ساعتها و.. أسرعت الخطو.
في غرفة العمليات: المطبخ.. وقفت أمل تعالج اللحم
بالسكين.. تعده للتعقيم: الطهو.. بعد أن غمرته بالبنج المكثف: البصل والتوابل.. يا
لها من أكلة يحبها الأولاد: شفا.
على أطراف النار تراقصت الصورة الأخيرة.
الوالدان والمعلمة.. تكاد أصابع كل منهما تدخل في عيني
الأخر:
-
ليس بهذا الاسلوب تعلمين الاطفال يا رحيمة هانم.. البنت
كرهت المدرسة.
-
ابنتك غير مطيعة، ودلوعة.
-
البنت مرهفة المشاعر.. تحتاج معاملة خاصة.
-
خاصة.! معلمة أنا لا دادة لبنتك.. دلع بنات.
-
تدخل الاب:
-
لا يجدي معك الذوق.. سترين ماذا أفعل بك.. سأشكوك
للوزير.
-
افعل ما تشاء.. لا أقبل التهديد.. أتفهم.؟
الأيام التالية كانت عصيبة على أمل.. امتنعت تماما عن
المدرسة.. توقف حلمها عند الرغبة الأولى.. كبرت وفي حلقها طعم الفشل.
التفت أسرتها الصغيرة حول مائدة الطعام.
-
لذيذ جدا أكلك يا ماما.
-
.........................
-
هذه الأكلة أحبها جدا.
-
..........................
سألها الزوج:
-
ماذا بك يا أمل.؟ لا تأكلين جيدا.
تنبهت.
-
زرت مدرسة الأولاد اليوم.؟
-
أولادك في تفوق مستمر.. لولا متابعت لهم ما صاروا في
المراكز الأولى.
-
بل لولا متابعتك أنت لي بالقراءة والتثقيف ما صرت أما
ناجحة.
-
لا تبخسي حقك يا أمل، ولا تهربي من السؤال.. ذهنك
منشغل.!
-
قابلتُها.
-
ألا تنسينها.؟!
-
قلت لها .. أنا الدكتورة أمل هاشم.
-
هدأت ثورتك إذن.!
-
على العكس.. جرت علىَّ صور الماضي فتجرعت مرارتها جرعة
جرعة.
-
هههههه هانتذي تتكلمين كالطبيبات.!.. تقولين جرعة..
جرعة.
- قلت لها إني دكتورة..
ولم أقل إنها دكتوراة في معالجة اللحم وعمل المحشي والسلاطة.
أبلة رحيمة حواء: 17 أكتوبر 1992
****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق