مالك والفتوى
تفوَّقت مكانة مالك العلمية على
كل أرباب الحلقات في المسجد النبوي وعرف له الجميع هذه المكانة سواء كانوا من
شيوخه السابقين أو من العلماء الذين عاصروه.
جلس الإمام مالك للفتيا وكان
عمره 25 سنة تقريباَ على أصحّ الروايات ويقول عن نفسه: لم أجلس للفتيا حتى أمرني
بالفتيا قرابة سبعين عالماَ، وأصبح رأيه في أية قضية تُعرض أو فتواه فيها مقدَّماً
على غيره مما جعل أصحاب الفتيا يتوقفون حتى قيل من غير حرج: لا يُفتى ومالك في
المدينة! ...
# ظل مالك طالب علم حتى بعد أن
أصبح فقيها كبيرا يسعى إليه الناس من كل أقطار الأرض
وإلى أن توفي سنة 179هـ وهو في السادسة والثمانين من عمره.
ولقد ظل يعلم الناس، منذ أن جلس للعلم، أن يتحرجوا في الفتيا وفي إبداء آرائهم،
فإذا كان الفقيه غير متثبت مما يقول فعليه في
شجاعة أن يعترف بأنه لا يدري. ذلك أن الفتيا لون من البلاء
لأهل العلم.
فمن حسب نفسه قد أوتي العلم كله،
فهو الجاهل حقا.. وشر الناس مكانا هو من يضع نفسه في
مكان ليس أهلا له. وإن رأى الناس غير ذلك، فصاحب العلم
أدرى بنفسه، وللرأي أمانته.
وهكذا عاش الإمام مالك منذ أن
بدأ يجلس للإفتاء والتدريس: جسد قوي، وعقل
نفاذ.. طعام حسن ومسكن جيد وثياب أنيقة بيضاء من خير ما
تنتجه مصر وخراسان وعدن. .
وألف الناس كلما دخلوا المسجد
النبوي بعد صلاة الفجر أن يجدوا رجلا مهيبا
طويلا فارعا أشقر، أبيض الوجه، أوسع العينين، أشم الأنف، كبير
اللحية، مفتول الشارب، يتخذ مكانه في هدوء، ويتحدث في صوت عميق صادق مستندا إلى عمود من حوله حلقة من تلاميذه، كأن على رؤوسهم الطير.
فإذا دخل غريب وألقى السلام لم يرد عليه أحد إلا همسا..
فإذا سأل من هذا؟ قيل له في صوت
خفيف:
إنه الإمام
مالك بن أنس.
***
فقد كان يفيض إذا تكلم، وينفذ بصدقه إلى القلوب.. ولم يكن جهير الصوت، فكان تلاميذه يكادون يمسكون بأنفاسهم لكيلا يفوتهم حرف مما يقول.
وكان قد خصص أياما لشرح الأحاديث النبوية الشريفة، وأياما للمسائل والفتيا.. وكم كان حريصا على أن ينتقي الأحاديث.
وعلى الرغم من كثرة الأحاديث التي حفظها، فلم يكن يحدث بهن جميعا.. لقد قيل له إن أحد الفقهاء يحدث بأحاديث ليست عندك.
فقال مالك: لو أني حدثت بكل ما
عندي لكأني إذن لأحمق ثم أضاف: لقد خرجت مني أحاديث لوددت لو
أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها. من أجل ذلك قال
عنه تلميذه الشافعي: «إذا جاء الحديث فمالك النجم الثاقب»
وبهذا الحرج
في الحديث كان يتحرج في الفتوى.. فلا يقول هذا حلال وهذا حرام إلا إذا كان هناك نص قطعي الدلالة.
وفيما عدا هذا يقول: أظن. ثم
يعقب فتواه مستشهدا بالآية الكريمة: »إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين»
عاتبه بعض تلاميذه على تحرجه في الفتوى، فاستعبر وبكى وهو يقول: إني أخاف أن
يكون لي منها يوم وأي يوم.
وقال يوما لأحد تلاميذه: ليس في
العلم شيء خفيف. أما سمعت قول الله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا).
فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل
عنه يوم القيامة.
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق