الأحد، 18 نوفمبر 2012

زوجتي يا سادة


زوجتي يا سادة

قالوا للنسا كيد وللرجال كيد، وكيد النسا يغلب كيد الرجال وأنا رجل عصمتي بيدي وفي عنجهية.. وزوجتي التي تكيد لي: سمينة وشرهة وتطبخ بالسمن البلدي، وتنام النهار وتمضي الليل في اللهو والفرفشة وفيها عنجهية.
لا أتذكر متي ولا كيف تزوجتها فتحت عيني لأجدها أم ولدي.
البيت لا يسعني وإياها.. لماذا لا أطلقها وآخذ ولدها وآخذ بيتها وترحل هي إلي غير رجعة وأجرب حظي مع امرأة أخري.
ولأنني رجل..  والرجل لا يعتد بعد الطلاق.. في اليوم التالي أعلنت أمام الجيران والأهل أنني استبدلت زوجا مكان زوج.
وأطلت امرأتي علي القوم بقد فارع.. وعيون كحيلة، فأحني الجميع رءوسهم إكبارا للجمال، وتكلمت فأرهفت الآذان إجلالا لرنة الصوت الساحر صائد الأفئدة والعقول، وأصبح لها بين الجيران والأهل "شنة ورنة".
معشوقتي التي يعشقها الجميع تتدلي بنصفها من النافذة وتنادي بائعي الخضر والفاكهة.. والباعة بدورهم يعملون لها ألف حساب، فلا يعارضها أحدهم، ولا يرفع سعرا ولا صوتا، وإلا طردته من الحي كله بعد علقة ساخنة.
وحتي لا تتشبه بزوجتي السابقة السمينة طبخت لنا بالسمن البلدي المخلوط بالنباتين.
ويصل القوم إلي قمة إعجابهم بها وهي تحاورني بذلك الصوت الساحر النبرات الواعي، ويستمتعون أكثر بوقوفي أمامها صامتا "لا أهش ولا أنش".. ولا تصدر عني أية نأمة وإلا تعرضت أنا وولدي -ابن السمينة الشرهة التي كانت تطبخ بالسمن البلدي- للحرمان مما جهزت لنا منذ الصباح.. من طعام مطهو بالسمن المخلوط مضافا إليه نكهتها المسماة.. "النفس".
أو تحرمنا من طلعتها البهية وسحرها الذي يفتن الجن والشياطين.
علمت ولدي.. كيف يفخر بست الدار، و.. يحفظ مبادئها الستة.
وهي لا تبخل علينا بالبروتين.. فنصيب الواحد منا في الصباح بيضتان الواحدة بحجم البيضة سواء مسلوقة أو مقلية، وطبق من الفول المدمس بالسمن المخلوط بالنباتين ورغيفان.
وما دمنا نأكل أنا وولدي ونملأ البطون، ونكحل العيون بقدها الفارع، ونشنف الأذن بحلاوة صوتها الآمر الناهي، و.. نجلس منفوخي الصدر نضع ساقا علي ساق أمام الجيران والأهل، مستمدين من قوتها الثقة.. فهي من القوم الذين لا يبيت لهم ثأر، ملكنا الدنيا وما فيها..  فشعارها :
"إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب"
ومرت الأيام وأنا وولدي يزداد فخرنا ونحمد الله الذي نجانا من تلك السمينة الشرهة وأتحفنا بهذه الطويلة المتكبرة و.. المنتفخة كبالونة.
لا أدري كيف طار هذا الدبوس دقيق الحجم مدبب الرأس والتصق بالبالونة المنتفخة فأفرغ هواءها.. وكان لخروج الهواء دفعة واحدة صوت مدو خلع قلبي وقلب ولدي.. وعرفنا أننا من الآن بلا امرأة فارعة القد ساحرة العينين والصوت.
عدنا من توديعها بعيون مغشاة بالدموع وقلوب مغشاة بالحزن، نفكر في الزوجة التالية فما اعتاد الرجال العيش بغير امرأة.
باختيار غير مختار جاءت إلي بيتي.
زوجتي الجديدة يا سادة.. لها سمعة طيبة تعرف الله وتصلي.. ولا تفعل العيب.. اعتمدت علي الله و.. أعطيت توقيعي.
كنت مضطرا لتجفيف دموعي المنهمرة علي زوجتي السابقة حتي لا تغضب العروس.. ولما رفعت غلالة الدمع تبينت أن زوجتي الجديدة.. سمراء.
لا هي بالطويلة ولا بالقصيرة ولا بالجميلة ولا بالسمينة, هي بين بين وسمراء.. لكنهم قالوا إن لها قلبا كبيرا يتسع للجميع.. وتمتلك روح الأسرة والانتماء.. ولمست هذا بنفسي.. عقدت زوجتي صداقة مودة مع الجيران والأهل وصار بيتي بيتهم ، وبيوتهم أيضا بيتي.
ولأنها تعرف عيوب البشرة السمراء أكثرت من وضع المساحيق والأقنعة علي الوجه، كما اهتمت بأناقة الملبس وبهرت عيون نساء الحي بالشياكة.
وصرخت بأعلي صوتي:
- والطعام .. أين الأكل.؟!
وترد بدماثة نادرة:
- كل طعام الحي ملك لك.. خذ ما تقدر علي حمله.. لن يمنعك أحد.. الأمر متروك لقدرتك.. احصل علي ما تكسب بجهدك..  ولدك هذا عليه أن ينهض لكسب عيشه.
تبادلنا اللعبة أنا والجيران.. في الليل أسطو علي منازلهم آخذ ما تطوله يدي، وهم يسطون علي في وضح النهار.. نري فعال بعضا البعض ونبتسم لبعضا البعض.
 والحلو لا يكتمل.. كان لزوجتي الأنيقة هذا العيب, ترفض وبإصرار أن يلعب الصغار أمام بيتنا.. ترش عليهم الماء من النافذة وتسبهم، وتتهمهم بالجهل والسفه.. ظل الأولاد يدمرون لها الكراهية فقد طعنتهم في رجولتهم ومصدر فخرهم.
وذات يوم.. وكنا نقيم حفل عيد الميلاد.. إذا بالحجارة تتسابق علينا من النافذة و.. تقتلها.
ماتت الزوجة السمراء طيبة القلب.. ورجعت أندب حظي فأنا أكره الوحدة.. وكذلك كل الرجال.
لابد من اختيار زوجة جديدة، وإلا لفتني أنا وولدي ابن السمينة اللاهية.. دوامة اللجج التي أشعلها الجيران.. فقد انقسموا إلي فريقين.
فريق لا يزال يتذكر زوجتي الفارعة ذات العيون الكحيلة.. ويقول:
- كانت أفضل النساء.
- وفريق يترحم علي السمراء ذات القلب الكبير، وأيام عزها وبحبوحتها.
وقليل هم من يتذكرون أم ولدي السمينة الشرهة.. ثلة من عجائز القوم يتذكرون جلوسهم معها في ضي القمر.. وقدرتها علي إدارة السمر.
دقت الطبول في بيتي مرة أخري.. وجاءت العروس هذه المرة بيضاء مبتسمة، أمام هذا الحسن استبشر قلبي بالرخاء والاسترخاء.
و.. تحققت النبوءة.. قالت:
- لا تتعب نفسك .. أنت وولدك في عيني.. استريحا فوق هذه الأريكة .. لا تجهدا نفسيكما إلا في الكلام.. (الفضفضة حق لكل مواطن) أما أنا فسوف أحضر لكما الطعام بنفسي.. وتساءلت:
- ماذا يشبعكما .
أجبتها :
- كان للواحد منا بيضتان ورغيفان وطبق من الفول المدمس.
ابتسمت:
في الصباح جاءتني بما طلبت ولولدي مثلة.. أكلت وحمدت الله وفعل ولدي مثلي.
صباح اليوم التالي.. أقبلت ولم تنس الابتسامة.. قدمت لكل منا طعامه وكان بيضة واحدة ونصف طبق فول بالسمن النباتين و.. رغيف.
قلت علي استحياء:
- أليس هذا قليلا؟!
ابتسمت.. أمام سحر ابتسامتها التهمت طعامي بشهية وحمدت الله وفعل ولدي مثلي.
صباح اليوم الثالث.. أقبلت وابتسامتها الحلوة تسبقها.. قدمت الطعام.. بيضة واحدة ونصف طبق من الفول المدمس بالزيت ورغيفا.. وقالت.
- هذا مناصفة لك ولولدك.
تبادلت النظرات الفزعة أنا وولدي.. عقدت الدهشة لسانينا "عقدة وشنيطة" تفصدت جبهتي بعرق الخجل أمام ابني الذي طرد أمه ذات السمن البلدي وعجزت عن اطعامه.. كدت أشجعه علي العصيان والاضراب عن الطعام.
لكن زوجتي الحنون اللماحة.. لما رأت العرق يتصبب بغزارة أسرعت وأحضرت مروحة.. وضعتها في مواجهتنا.. أدارتها فتحرك الهواء و.. سرعان ما جف العرق وارتخت الأعصاب.
حولت عيني عن صينية الطعام شبه الفارغة إلي زوجتي فإذا بها.. بيضاء مبتسمة.
اتسعت ابتسامتها وهي تقول:
- يجب أن نتعود ضبط النفس ولا نأكل إلا ما يسد الجوع.. "إن المبذرين كانوا اخوان الشياطين"
المقولة صحيحة تماما.. والهواء منعش ينعنع الأعصاب.. وتعودت أنا وولدي أن نحني رأسينا أمام المقولات الصحيحة ونتخذها شعارنا في الحياة و.. ننام في الهواء الرطيب.
ابتسمت لولدي.. فهم أنني راض.. أقبل علي طعامه وهو نشوان بسحر الهواء.
صباح اليوم التالي لمقولتها أتت بالطعام .. الهواء لايزال يوزع نسائمه.. رفعنا الغطاء عن المائدة العامرة فإذا بطبق من الفول، يقف وحيدا كجندي في حلبة قتال دون معاونة من خبز أو مؤازرة من بيض.
في ظل الهواء اللذيذ مددت إصبعين التقت حبة من الفول الخالي من الزيت.. دسستها في فمي.. جعلت ألوكها ببطء ثم بعنف ثم ببطء, راعني أنها لا تقبل الاستسلام تحت وطأة أسناني.. حدقت في الطبق فإذا هو سرب من السوس يسعي إلي أعضائي فيلتهمها عضوا وراء عضو، وهو يتداعي بين فكي السوس، وأنا في حالة حالمة ومحدقة، فزوجتي أمامي.. بيضاء مبتسمة.. والهواء يرسل رذاذا منعشا يفعل في أعصابي وعظامي ما يسهل للسوس مهمته
نشرت في مجلة القصة قبل صدور الكتاب
****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق