الأحد، 18 نوفمبر 2012

حتى لا يقتلني ابني


حتى لا يقتلني ابني

جريمة هذا العام.. شاب ملحد يقتل والديه.. 26 رصاصة في جسد أمه وأبيه.. دارت بعينيها بين الجرائد الثلاث.. زاغ بصرها.. أقشعر بدنها.. إلتوت أمعاؤها.. رفعت عينيها عن الجرائد الثلاث.. دارت بين عيالها الثلاث.. أفزعها الخاطر:
- من منهم سيقتلني.؟
ربما الأوسط.. ولد شقي.. عصبي المزاج.. لا يرضى عن ثأره بديلا.. إذا تشاجر مع إخوته يصر على أن تكون اللكمة الأخيرة له، أو يظل يبكي طوال اليوم.. عمره خمس سنوات لكنه يبادر بالتعدي.. يهوى لعب المصارعة والكاراتيه، لا يسلم والداه من مشاكساته.. ولا يمتثل لأوامرهما.. إذا نهر فهو قدر كاتم يفور على نار حتى ينفجر.
لا.. ليس هو.. الطفل الشقي يغير طباعه في الكبر.. قد يفعلها الأكبر.. فرغم هدوء مظهره إلا أن مخه في حركة دائمة.. يمزج الحقيقة بالخيال.. الصدق بالكذب.. وعند المواجهة لا يخجل من كذبه، أو يتراجع بل يراوغ ويراوغ.. لايبالي بشيء.. يقبل على درسه مدفوعا دفعا.. وهو يتتبعك بنظراته ويتجاهلك إذا واجهته.. شفتاه مهمهمتان على الدوام وينكر أنه يقول شيئا، وأمام نظراته الثابتة وإصراره تتراجع خطواتك.
ربما يتوعدني بهذه التمتمات، وسن الثامنة لا تساعده.! وقد يكون مظلوما.. قد يكون الأصغر.. فيجب ألا تنسي وسامة وجهه، وخفة ظله أنه جيل تليفزيوني.. ثلاث سنوات فقط قضاها بيننا.. تدهشك حركاته، تذهلك كلماته.. طلباته أوامر، وإلا صرخ ورمى ما تطوله يده، وانهال على لعبه تكسيرا.
الثلاثة لعبتهم الأثيرة إشهار مسدساتهم في وجه بعضهم البعض.. يحزن شاهر السلاح إذا لم يخر أخوه ميتا.
كثيرا ما يفاجئون والدهم فور دخوله بالمسدس الطفولي ويطلبون منه رفع يديه.
لم تعد تصرفاتهم ساذجة في نظر الأم.. سؤالها الوحيد:
- ماذا أفعل حتى لا يقتلني ابني.؟
اعتزمت أمرا.. لابد من طاعتهم طاعة عمياء.. تلبية طلباتهم.. أريد كذا.. حاضر.. وأنا أريد كذا.. حاضر.. سأذهب إلى.. حاضر.. يسبها الصغير:
- أنت وحشه يا ماما.
حاضر.. لن أذهب إلى المدرسة.. حاضر.. أرفض هذا الطعام.. أصنع لك غيره في الحال.. لن ألبس سترتي.. كما يحلو لك.. حاضر.. حاضر.
تتابع الجرائد.. الطبيب النفساني والمحلل الاجتماعي يرجعان الجريمة للتدليل الشديد.
تفزع الأم.. لن أقول لهم حاضر بعد اليوم.. سوف أقسو عليهم.. أضربهم.. أتدخل في شئونهم.. لن يفعلوا شيئا يحبونه، لن يذهبوا إلى مكان يودونه.. لن يأكلون طعاما يشتهونه.. لن يرتدوا ثوبا يريدونه.. أريد كذا.. لا.. وأنا أريد.. لا.. لا.
علا صراخ الأم والأولاد.. دار الصراخ في أرجاء البيت فامتلأ ضجيجا.. ارتد إلى رءوسهم فتصدعت.
الطبيب النفساني والمحلل الاجتماعي يحذران من القسوة والمبالغة في الشدة.
- ما العمل.؟
حارت الأم.. أمسكت برأسها.. دارت حول نفسها و.. سقطت.
بالمشفى التف الأولاد فوق حواف سريرها، فتحت عينيها.. استوقفتها دموعهم، ترجم بدنها لمسات أيديهم:
ناعمة حانية.. انبسطت أساريرها، عادت وتقلصت.. شفتا الكبير تتمتمان كالعادة.. سألته بفزع:
- ماذا تقول.؟
أجاب:
- دعو الله أن يشفيك يا أمي.. صليت في الصباح ودعوت لك.
تحولت بناظريها إلى الأوسط.. الصغير يدفعه بعيدا عن حضن أمه ويأخذ مكانه.. تنازل الأوسط راضيا، واحتضن أمه من الجانب الثاني.. تأملته.. لا يبدو عليه الغضب.. لا ينوى أن يثأر منه كما توهمت.
مال الكبير عل أذن الأوسط الذي يهز رأسه موافقا.. رفع الاثنان أيديهما إلى السماء وقالا:
- يارب ماما تشفى.. يارب ماما تشفى.
ردد الصغير الكلمات.
- يارب ماما تشفى.
ابتسمت.. استطاعوا أن يجعلوها تبتسم.. ضمتهم بذراعيها.. قربتهم من قلبها.. شعرت بما أثلج صدرها.. تمتمت:
- الحمد لله.
مجلة النجوم العربية: سبتمبر 1987
****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق