الأحد، 18 نوفمبر 2012

للأسف برت بوعدها


للأسف برت بوعدها

الوقت بعد منتصف الليل.. الليل بهيم موحش.. شبحان يمخران عباب هذه الوحشة.. يستند أحدهما على الآخر.. عائدين من مهمة غير منصفة.. شيخ في سن المعاش.. وفتاة في مقتبل العمر.. يحثان الخطى نحو منزلها.. هذان الشبحان هما: أبي وأنا.
عجزت تماما عن الاستسلام للنوم.. صورتها ثابتة أمام ناظري المغلقتين قهرا.. صوتها يرن في أذني.. زدت من ثقل يدي عليهما.
- أظنك سعيدة الأن.. فزت بوعد ولن تنشر الموضوع.
لست أدري إذا كنت سعيدة حقا.. من ساق لنا تلك الصحفية.. من أخبرها بخبرنا.!
"الأم البديلة" هو موضوع المجلة في عيد الأم القادم.. لماذا.؟ وكيف وقع الاختيار على أسرتنا.؟.. من أدراهم أن أمي ليست أمي.؟
أمضيتُ اليوم خارج البيت.. أبحث لها عن هدية.. تعب خطيبي من اللف معي.. قال وهو يتألم بقدميه:
- لايزال هناك وقت.. ربما يخترعون هدية مناسبة للست الوالدة.
- أرمي لك الدبلة فورا إذا تهكمت على ماما مرة أخرى.
لا أتهكم على ماما أنا أحبها، بل أتهكم عليك أنت.
عند العودة لاحظت وجود ضيفة لا أعرفها.
- هذه آخر العنقود.. أختي الحبوبة وأكثرنا شقاوة.
قالها أخي وهو يقدمني للضيفة.. أكمل:
- تحتفظ بصور نادرة تصلح للموضوع.. تساءلت:
- أي موضوع.؟
- هذه صحفية .. تريد عمل موضوع عن الأم البديلة.. قصصت عليها بعضا من حياتنا وعليك بالباقي.
دارت الدنيا برأسي.. صرخت:
- هل جننت يا أخي.؟ كيف تقبل أن تذيع سرا كهذا.!! من سمح لك.. الأمر لا يعنيك وحدك.!
ارتسمت علامات الدهشة على وجه المحررة.. اندفعت تقول في حذر:
- ما العيب في هذا يا آنسه.؟!
- هذا سري.. من حقي أحتفظ به.
- لكن.
- بدون لكن من فضلك.. انسي ما قاله أخي.
- مطت شفتيها وانصرفت.. تركتني أذرع الغرفة جيئة وذهابا.. أوسع أخي تأنيبا.. تخيلت نفسي والزميلات والزملاء يتوافدون.. يسألونني عن زوجة أبي.. كيف نتعامل معها.؟ وهم بين مصدق ومكذب.. هم الذين يشكُون أحيانا من أمهاتهم اللائي ولدنهم.
جاء والدي.. اضطرب لحالتي.. جسمت له حجم الفضيحة.. أسرعنا نبحث عن عنوان المحررة لنؤكد عليها بعدم النشر.. استقبلتنا بوجه بشوش لا يخلو من الدهشة.!.. قالت:
- وعدتك وهذا يكفي.. وبما أنك جئت فقد أعطيتني الفرصة لأنبهك لشيء مهم.
- ما هو.؟
- أنت تجحدين فضلها بهذا الأسلوب.. تضنين عليها بالزهو في يوم كهذا ومكافأة تحصل عليها.
- حجود.؟! لم أفكر في هذا.! كلنا نحبها.. نقدرها.. نبذل جهدنا لإسعادها.
- كيف.؟
- أي أم لاتبغي من أولادها أكثر من الاعتراف بفضلها، ونحن نفعل.
- هذا دوركم.. أما دورنا هو إظهار مثل هذا النمواذج الإنساني.. تنهدتْ وأكملتْ:
- لو كنتم وقعتم في يد زوجة أب لا ترحم لصدعتم رأسي حتى أكتب عن مأساتكم لنزيد حملة الكراهية ضدها.. إشفاقا عليكم.. أما وإنها زوجة أب مثالية نطوي خبرها.!!
انكتمتُ.. حارت الدمعة في عيني.. أجهشت قائلة:
- ألا تلتمسين لي العذر.؟
- أسمع.!
- عندما عرفت أنك ستقولين للناس إن أمي ليست أمي.. أحسست بالخوف.. أحسست أنكم ستأخذون مني أمي.. من سنين طويلة نسيت أنها ليس أمي.. خشيت أن يتردد لفظ زوجة الأب فيسيء إلى مشاعرها.. أو يغير مشاعري.. أرجوكم اتركوا لي أمي.
في غرفتي وحدي.. أدور حول نفسي.. حرَّمني النوم على نفسه.. صوت من أعماقي يتهمني.!
- انتصرت وهي الضحية.. ليت المحررة تحنث في وعدها.. تعلن في صفحتها.. عثرت عليها.. زوجة أب تفانت في خدمة أطفال زوجها.. تسلمتهم طيورا ضعيفة.. ضمتهم تحت جناحيها.. أدفأتهم بقلبها.. حرمت نفسها وأطعمتهم.. علمتهم.
ماتت أمهم وشقى بهم الأب عاما كاملا.. ذاق الهوان وهو يلبس هذا ويرضع هذه.. ويداعب تلك.. دار بهم على بيوت الأهل يتسول العطف.
لم يكن الأب حين تقدم إليها يمتلك سوى راتبه البسيط، وأطفاله الثلاث وكثير .. كثير من الهموم.
قالت وهى تأخذني في حضنها:
- أوافق من أجل هذه الجميلة.. الجمال نقمة إن لم يجد يدا تصونه.. وكانت اليد.
وسلسلة ذكرياتنا معها طويل:
في يوم وجد شقيقي حافظة نقود.. علمتنا الصدق والأمانة.. عاد يبحث عن صاحبها، ثم كافأته على أمانته.
عند تجهيز أختي الكبرى أعلن الأب افلاسه.. وقلة حيلته.. دبرت من قوتها لتحضر لأختي كل غال تحبه.
خاطت لنفسها فستانا.. أعجبني.. صغرته وقدمته لي طواعية.
خاصمنا والدنا، وأضربنا عن أخذ المصروف لقلته.. علمتنا كيف ندبر أمورنا حسب إمكاناتنا.
و.. سقطت مريضة عندما رسب أخي في إحدى السنوات.
أنجبت طفلة.. لم تفرق بيننا وبينها في المعاملة.. ولم تعرف البنت هذا الفرق حتى الآن.
طوق النجاة الدائم لسفينة حياتنا المتأرجحة.
ظل الصوت في أعماقي يهتف.. ظلمتها.. ظلمتها.. أسرعت أسكت  الصوت.. هرولت إلى الجريدة فور  صدورها.. آملة أن تخذلني المحررة، وأجد الموضوع يتصدرها.. عنوانه بالخط العريض.
" الأم هى التي ربت، وليست التي أنجبت".. لم أجد شيئا..!!
 للأسف برت بوعدها.
حواء: 12 مارس 1988
مثلت في الاذاعة في عيد الأم بعنوان "أمي ولكن" لديَّ التسجيل.
****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق