الهانم والبائعة الصغيرة
رفلت في ثوب فضفاض, يكشف عن ذراعيها وجزء كبير من صدرها.. وقد تضوع الجو بعطرها.. أدارت قنوات
التليفزيون حتي ارتضت إحداها.. استرخت فوق أريكتها المريحة المفضلة .
علي الحائط رقم لا تعيره التفاتا.. نفاذه إلي
مخيلتها أقوي من تظاهرها بعدم المبالاة, فلم تجد
بدا من مواجهته:
- قاسية جدا هذه النتيجة.. تتساقط أوراقها في سرعة عجيبة تذكرنا بحقائق
من الأفضل نسيانها.
- قاسية جدا يدنا التي
تثبتها قبالة العين في إلحاح.
الثالث عشر.. يصمد أمام عينيها..
يتحدي ذاكرتها.. تداعت المعاني.. لم يبق معها من مصروف الشهر سوي عشرة جنيهات
فسألتها:
- هل ستكفي الجنيهات العشرة حتي
آخر الشهر.؟
قالت النتيجة:
- كيف.؟ والراتب كله ضاع في أقل
من نصف الشهر.!
لم تهزمها الإجابة, فعاجلتها:
- ولكن بالبيت كل شيء تقريبا.. الزبد يكفي حتي آخر الشهر..
اللبن الجاف موجود.. الثلاجة عامرة باللحم والبيض والمربي والجبن.. ديون الشهر
الماضي مدفوعة بالكامل.. مشكلة المشكلات تغلبت عليها.. مصروف الآولاد.. أعطيت كل
واحد مصروف الشهر كله.. ولن اسمع كلمة "هاتي.. هاتي" في أوقات الضيق.
النتيجة مصرة علي ازعاجها :
- الخضار .. الفاكهة.. الخبز.
انتفضت واقفة:
- إذن فلن تكفي جنيهاتي العشرة..
شامتة فيَّ أيتها النتيجة.!
ما أقبح نظراتك الصفراء.. لا بأس,
إذا احتجت إلي عشرة جنيهات أخري أو عشرين فالبركة في ماما ثم أعيدها في بداية
الشهر القادم كالعادة.
عادت تسترخي وقد لانت ملامحها
إثر خاطر شجع البسمة أن تغزو شفتيها
- لعل الله يرزق بإضافي أو منحة ليست علي البال.
المهم لامعنى للقلق, والعشرة
جنيهات..لاتزال (صحيحة).
استرخت.. تتابع باهتمام برنامجها
المفضل.. دق جرس الباب.. تسابق إليه الأطفال..جرى أحدهم إلى أمه:
- فتاه صغيرة تبيع عدسا وأرزا وبقولا جافة.
- لا أريد شيئا من هذا.. دعها تنصرف.
عاد الصغير إلى الفتاة.. ارتد
إلى أمه:
- تقول اشترى
ولو نصف كيلو.. فهى تريد شراء طعام لإخوتها.
- أدخلها.
لفافات.. لفافات من أثواب فوق
بعضها البعض تلف انسانا صغيرا يتدحرج علي الأرض.. صدأ الجسم يطل من بين نوافذ
الأثواب وأبوابها.. يضم الرأس منديل..
يعصره, نفرت بعض خصلاته المجعدة المغبرة.. انتشرت فوق هذا الكائن طبقة
كثيفة من القشف. نطقت:
- اشتري أي شيء يا ست هانم.. أريد شراء طعام لإخوتي.
مأساة تمشي علي قدمين.. صوت حزين
ووجه بائس.. عينان تائهتان.. تجربة ثرية لفنان مرهف الحس يجسدها رسما أو نحتا.
- اجلسي.
تربعت الفتاة فوق الأرض.. أسندت
رأسها إلي كفها المعتمد كوعه فوق ركبتها.. هكذا اكتمل التمثال المشرد.
- أنت التي تطعمين إخوتك.؟!
- نعم يا ست هانم.
- كم عددهم..؟
- أربعة.. كلهم أصغر مني.. أبي وأمي شيخان لا يقدران علي العمل.
- ولكن
البضاعة التي معك قليلة.. ماذا لو أردنا أكثر.؟!
-
بضاعتي ثقيلة.. تركتها أسفل العمارة عند البواب لكي أريح رأسي قليلا.
- ولم
لا تعملين عند إحدي الأسر.. أفضل من اللف في الشوارع.؟
-
الناس في (حتتنا) يقولون لمن تشتغل في بيت (يا خدامه) لكني لا أرفض إذا طلبت مني
إحدي السيدات اللاتي أبيع لهن.. مسحا.. غسيلا.. أي شيء.
تلفتت حولها.. دققت في بلاط
الشقة بعينين صغيرتين مدورتين.. وقالت:
- أمسح
لك الشقة يا ست هانم.؟
قفز قلبها وراء نصف المبلغ الذي
طار.. تخيلته يذوب تحت كفين صغيرتين تدوران فوق (البلاط) وهو يئن تأثرا بأنينها..
نظرات الفتاة وهي ترجو الموافقة تترنح فيها دموع يبدو أنها سابقة التحضير, ولكنها
نفذت إلي قلب السيدة.. أما الصوت فمرتعش تعس يحبس رغبة قوية في البكاء.
- لا شكرا لا أريد مسحا ولا شيء.
نهضت السيدة لتنجو بنفسها من
حصار النظرات والصوت.. غابت قليلا وعادت بكوب من عصير الليمون.. اختطفته الفتاة
بسرعة.. أخذت تلقي به في جوفها علي دفعات بنهم وتلمظ.. أبطأت في ثلث الكوب الأخير..
أخذت ترشف منه علي مهل وهي تتلذذ به.. أخيرا وضعت الكوب ومسحت فمها بكم جلباها و..
قالت:
- أتردين عدسا.. أو فريكا أو فولا..؟
- شكرا.. عندي كل هذا.. تعالي الشهر القادم.
- ربنا (يخليك) يا ست هانم.. ويخلي لك عيالك.. اشتري ولو نصف كيلوا..
سأشتري طعاما لإخوتي.
- قاطعتها:
- بكم
كيلو الفريك.؟
- جنيهان.
- معي
عشرة جنيهات صحيحة.. أظنك لا تستطيعين فكها.
هب التمثال.. تحول فجأة إلي
مارد.. دست يدها في جيب جلبابها الطويل المقلم.. أخرجت رزمة من الأوراق المالية
مختلفة الفئات.. شرعت في استبعاد الأوراق الكبيرة حتي وصلت إلي جوف الرزمة حيث
ترقد الجنيهات.. وبدأت في العد.. واحد.. اثنان .. ثلاثة.. ثمانية..
-
تفضلي يا ست هانم.
ناولتها ورقتها المالية
الوحيدة.. تابعتها بعينيها وهي تتمدد بجوار أخواتها من الفئة نفسها وغابت معهم في
الجيب الطول.
انفرجت شفتاها عن ابتسامة ساخرة وهي
تدير ناظريها ناحية النتيجة.. خالتها تزهو ببسمة المنتصر:
- ها أنت ذي لم تستطيعي حماية العشرة جنيهات من يد البائعة الصغيرة.
أفاقت علي صوت الفتاة:
- خذي كيلو لوبيا.. ربنا يخليك.
بضيق:
- لا.. كفي.. أسمعت.؟
- حاضر يا ست
هانم.
عاد لصوت الفتاة حزنه ولوجهها شقاؤه
و.. قالت:
- اعطيني
ثوبا قديما أطال الله عمرك.؟ ليس عندي
(هدوم)
- بل
قولي ليس عندك هموم!
- ماذا قلت يا هانم..؟
- لم أقل شئيا .. أكلم نفسي.
أعاد صوت الفتاة للسيدة
انتباهها:
-
أرجوك يا هانم.. اعطيني جلبابا قديما.
- لا
تقولي هانم..! أنت ست الهوانم.
مجلة
الهلال يناير 1988
****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق