الاثنين، 19 نوفمبر 2012

الشرخ: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


الشرخ
:
دفء مايو يلامس الكائنات.. يبشر بمقدم الربيع.. بشراه لا تصل إلى مشاعري.. ثمة تيار بارد يسري في داخلي.. يغمر جسدي.. يبعث الرعشة في أطرافي.
تستبد بجسدي رغبة في الانكماش.. التكوير.. التلاشي حتى أتجنب نظراته المسلطة عليَّ تريد أن تنتزع الرد مني انتزاعا.
 ذكرني موقفي الذي لا أحسد عليه، ويومي البارد هذا بيومٍ شعرت فيه بالدفء والنشاط.. بماء الحياة يدب في أوصالي.. أروح وأغدو غير عابئة بارتعادة الحياة وكثرة دموعها، كما يحدث عادة في شهر يناير.
أصررت على أن ينصرف الجميع.. وقفت وحدي أتحدى الإرهاق وعدم النوم.. لابد أن أكون أول ملامح تتشربها عيناه مع أول ضوء يدخلهما.
انتظرت طويلا ارتعاشة جفنيه.. أصلي خاشعة أن يفيق.. أذناي تجتران سماع أجمل عبارة التقطتاها طوال حياتي.. نجحت العملية.. يداي تغافلني.. تهزه.. تداعبان طفلنا الذي طال انتظارنا له.. رأيته بعين خيالي يملأ المكان حركة وضجيجا.
دقائق ويفتح عينيه.. ويسدل الستار على فصل مأساوي دام خمسا وعشرين سنة.. زواجنا كان عقلانيا هادئا.. شعور بعدم الاستغناء يمدنا بالقوة لتحمل الحياة.. كم من زيجات تحطمت على عتبة أول مشكلة.!.. ارتباط تحدى النداء المحبب إلى سمع وقلب كل أنثى.. ماما.
- إذا شعرت بحنين إلى الولد اطلبي الطلاق.. أنت غير مجبرة على معاشرة عقيم.. في حياتي يا ابنتي حققي أمنيتك.
- اطمئن يا أبي.. لن أتخلى عنه.. ماذا سيصنع لي الولد.!
(نداء الأمومة يسحق عظامي.. أخنق لهفتي أمامه.. أقيد يديَّ فلا تسرعان بضم طفل صادفنا)
بلا اتفاق مسبق وجد كل منا الحل لمشكلته.. زياراتي المتكررة لملاجيء الأيتام.. أشبع بطونهم ويشبعون أمومتي.. الحلوى والهدايا في مقابل الحب الطفولي البريء.
أما هو فسلواه في أبناء شقيقه.. كأنه ليلة القدر لهم.. به ضمنوا الطعام، والكساء والترويح.. خمس وعشرين سنة مرت.. بحلوها ومرها.. أغدق عليَّ حبه وكرمه، وأفرغت فيه شحنات أمومتي.. حنانا زائدا.
لم يكف الأمل.. يبرق.. يخبو.. يتجدد بخبر في الجرنال.
يصل إلى مصر الطبيب الأجنبي(.....) المتخصص في عقم الرجال.
رغم تكرار المحاولة لم نيأس.
تسابق الأهل يبشروننا.. مبدين تعاونهم:
- أعرف طبيبا كبيرا في المستشفى ذاتها.. يكثف العناية به.
- الحجز المبكر ضروري.. حتى قبل وصول الطبيب.
- تهانينا المسبقة.. فالأمل قاب قوسين.
أمل.. فرح.. خوف.
تتلعبك المشاعر في الصدور كلما اقترب موعد العملية.. التصقت العيون بلافتة الغرفة.. العمليات.
- نجحت العملية.
انطلقت الزفرات المكبوتة مع عبارات الفرح والتهنئة.
اندفعت الحياة في عروقي.. أروح أغدو بلا هدف.. مددوه فوق سريره.. قبعت أمامه كعابد في محراب.. متى يعود إلى الحياة.؟
خطرت فكرة مجنونة لو أرقد إلى جواره الآن فلا نضيع لحظة واحدة.!

- هل فشلت العملية.؟ مر عام ولم تحملي.. ما السبب.؟
عام وأنا أصيخ السمع إلى أحشائي.. هامدة.. هامدة.. تلك الاغماءة لم تكن إلا وهما.. ذلك الغثيان ما هو إلا حنين ولهفة.. كلها آمال كاذبة.. تحركت شفتاي تطمئنه.
- لا تحزن إذا فشلت جراحتك.. لا يعني نهاية العالم.. كنا سعداء قبلها وسنظل.. يجب أن نستأنف سعادتنا وننسى الأمر نهائيا.
- لم تفشل جراحتي.
- ماذا تعني.؟!
- ذهبت لإكثر من طبيب وأكد لي.
-...................................
- الطبيب يطلب رؤيتك.
- أنا.!.. رؤيتي أنا.؟
كالهزة الأرضية التي تقلب ما فوقها بلا رحمة.. كانت جملة الطبيب يطلب رؤيتك.!
منذ أن حسمنا الأمر لصالحي في بداية حياتنا الزوجية لم يخطر على بالي أن يراني الطبيب.. تمالكت نفسي.. هززت رأسي بالايجاب.

استسلمت لأنامل الطبيب.. تقلبني يمينا وشمالا.. كدمية في يد طفل مدلل لا يعير وزنا لقيمتها:
- تحتاج لبعض المقويات.. أو نضطر لإجراء عملية بسيطة.
هذا ما أعلنه الطبيب ووعيته جيدا.. في أذن زوجي همس بكلمات أخر.
- كبرت سنها.. إذا تأخرت الزوجة عن الانجاب حتى هذه السن يضمر رحمها ويصعب عليها الحمل والوضع.
عرفت هذه الحقيقة من بين سطور اليأس المسطورة فوق جبين زوجي.. استسلمت لعلاج وهمي.. وهم حب دام سبعا وعشرين سنة.
-       اسمحي لي أن أتزوج.
كلمات أم ألسنة لهب.. كيف نطق بها.. كيف احتملتُها.. كيف يقف أمامي ثابتا يستعجل موافقتي.. يكمل:
- هذا بيتك.. ولن استغنى عنك بالطبع.. فقط أحتاج طفلا.
بماذا أجيبه.. عيناه تخترقان جسدي.. يريدان اكتشاف أعماقي.
يا إلهي.. أمازال واقفا.؟.. هل من أوصال ألملمها وأجيبك بها.. أمهلني حتى الغد.. غدا إذا جئت من عملك.. لن تجدني.. لن تجد ملابسي.. أشيائي البسيطة.. ذكرياتي.. لن تجد الصورة التي تضمنا بثوبي الأبيض وحلتك السوداء.
أما الجدران.. فيمكنك أن تغمض عيونها الدامعة بطبقة من الزيت.
****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق