الأحد، 18 نوفمبر 2012

الصــورة


الصــورة

الصورة بين يديها.. ابتسامة عريضة على شفتيها.. دموع حائرة في مقلتيها.. ترى لمن الصورة التي أثارت لديها مشاعرها الانسانية: البسمة والدمعة.
- اقترب مني يا ولدي وانظر.. لمن الصورة.؟.. احذر من.؟.. نور.!!
(نور.. يا له من اسم لا أود استرجاعه)
- تأمل الصورة.. هذه ما كنت أفتش عنها.. هى زوجتك.
- زوجتي.؟ وهل تزوجت.؟!
- ستتزوج ياولدي.. ستكون زوجتك المقبلة.
- ماذا.؟
- هى صورة أخرى من نور.. أختك يا بني.. ستعوض فقيدتنا وتملأ فراغنا.
(يا له من فراغ لا أحب أن يملأ.. إذا كان بمثل نور)
-  لمَ لا ترد يا ولدي.. بالتأكيد إنها أعجبتك.. أليس كذلك.!
(كلامها بحماس افتقدته من سنين جمد الكلمات على لساني.. مشيت متثاقلا نحو غرفتي.. الصورة في يدي.. وطنين عجيب في رأسي.. درت في أنحاء غرفتي.. خرجت مسرعا إلى غرفة الاستقبال.. صورتها تملأ أحد جدرانها المواجهة.. هكذا قررت أمي أن تفرض صورتها على كل الزوار.. من يدخل الحجرة يراها بنفسه، وإلا تولت أمي لفت نظره مع نبذة عن حياتها.. كم كانت جميلة.. مرحة.. ذكية.. ضحكتها ترن في أرجاء الشقة فتملأها حيوية.. صارت قبرا بعد رحيلها.
صورة أخرى علقت في الصالة، وثالثة في غرفة أمي، ورابعة في غرفتي.. كانت أمي تدفع عجلات كرسيها وتمر على الصور خمس مرات في اليوم.
منذ سنوات ثقل عليها المرض لزمت غرفتها.. وقتها تنفست الصعداء.. رفعت صورة الفقيدة الغالية من غرفتي وأرحتها فوق ظهر الدولاب.
- ماذا قلت يا ولدي.. لابد أنك ستطير فرحا، فقد تربيت معها وتحمل لها ذكريات كثيرة.
(كثيرة، ومثيرة.. وُلِدتُ لأجد نفسي أكمل نصف دستة في بيتنا.. والدان شيخان وثلاثة إخوة.. حصل أصغرهم على الإعدادية يوم مولدي.. ملت أمي البنين وتربيتهم المتعبة.. وأنانيتهم المفرطة.. تمنت لو ترزق ببنت لتفضلها عليهم "فالبنت حبيبة أمها". الأم تقدمت بها السن.. بدأت الأمراض تغزو جسدها النشيط.. تحيله رويدا.. رويدا إلى التقاعد، رغم هذا تحمل في أحشائها بذرة جديدة.
مرت شهور الحمل وهي ملهوفة على البنت.. جئت أنا.. سخطت.. لعنت.. عاتبت القدر.. اتضح أنه كان يداعبها.. في العام التالي أهداها البنت.
- ماذا تسمينها.؟
- أسميها حياتي.. روحي.. نور عيني.
- إذن نور.. على بركة الله.
(تلك الرواية حكتها أمي مرارا وتكرارا و.. حفظتها رغما عني)
- أين أنت يا ولدي.؟
وقفت أمامها في امتثال معتاد:
- نعم يا أمي.. أتريدين شيئا.؟
- أجل يا ولدي.. أريد أن أقص عليك كيف حصلت على الصورة.. كنت أشاهد صور الفتيات مع جارتنا كنوع من التسلية.. وقعت عليها عيناي.. صرخت.. خشيت الجارة الطيبة عليَّ، رأتني أبكي وأضحك معا.
- لكني في ضعف عمرها يا أمي.
- وماذا فيها.. تعيد معها ذكريات طفولتك.
(مصرة أمي أن تنبش في قاع الذكريات.. شببت أنا ونور تقريبا وحدنا، ففي عامي العاشر خلا البيت من البنين الثلاثة.. ذهب كل في ناحية وفضل الأب الحياة الأخرى.. ربما تكون أكثر هدوءا من صخبنا المستمر.
كنا طفلين في قمة نشاطهما، وأم عجوز في قمة هزالها.. لكنها مطمئنة لوجود البنت إلى جوارها.. فهي التي تتحملها.. تسهر على راحتها.. أما أنا فسوف أرحل كما فعل السابقون.
لا تكف أمي عن تريد عبارتها:
- الولد ليس فيه خير.. البنت نبع الحنان والرقة.
وإذا كانت هذه هى صفات الأنثى فعلا، فأختي لم تكتسب منها شيئا.. وكيف تكون كذلك وأمي لا تمل من الدفاع عنها.
في دنيانا الثلاثية، طرفا النزاع أنا وأختي.. القاضي والمحكمة هما أمي.
- من فضلك يا نور نظفي البيت.
- لماذا أنا.. إنه قاعد أمامك لا يفعل شيئا.
- فعلا.. ما فائدتك أنت.. انهض.. رتب الحجرات.
تنتابني أحيانا رغبة في تقليدها.
- وهى أيضا لا تفعل شيئا.
- عند أمي الرد جاهز:
- غدا تفعل الكثير، بعدما تطفش أنت من البيت كإخوتك.
هزتني أمي لتكمل مغامرتها:
- لا تظن أنني اعتمدت في رأيي على الصورة وحدها.. رأيت الفتاة بشحمها ولحمها.
احتالت جارتنا الطيبة حتى جمعتني بها هنا.
مسحت دمعة فرت على خدها:
- أرأيت كيف عادت الدموع تجري في عيني من جديد.. قوة الشبه أيقظت مشاعري.
- وأنا .. السيرة أيقظت ضغائني.. كنا نتشاجر كثيرا.. كانت تبتكر فنونا لمضايقتي.
- لعبتي انكسرت بسرعة.. أريد لعبته.
- خذيها يا حبيبتي.. كفاه لعبا.
- أريد أن أستبدل سريره بسريري.
- لا تغضبي أبدليهما.
- يروق لي صحن طعامه.
- لا مانع.. خذي ماتريدين.
- ملابس الرجال تستهويني.. قميصه وبنطلونه يليقان على أكثر.
-                  وماذا فيها.. البسي ما يحلو لك.
-                  لماذا يا أمي تطيعنها ضد رغبتي.؟!!
-     جاهدت نفسي كثيرا حتى جمعت عبارتي السابقة.. وحذرتني إجابتها من تكرارها:
-     البنت ينتظرها هم كبير.. أما أنت ففي الغد تجد لك واحدة تتزوجها.. تفرض عليها سيطرتك كما فعل أبوك، وإخوتك.
كرهت السيطرة.. كيف لي بها وقد تعودت على عكسها.
مرت السنوات.. كبرنا.. التحقنا بالجامعة معا.. أنا ونور في عام واحد، فإعادتي للثانوية العامة أذابت فارق العام.. عيرتني برسوبي وهى تعرف السبب.. ملازمتي لفراش أمي في مرضها، بينما هى تجلس في الشرفة تقرأ الروايات الغرامية، والبولسية.
في الجامعة كنا شخصيتين مختلفتين.. هى مرحة منطلقة و.. جريئة أيضا.
وأنا خجول منطو ومتردد.. لا أحد يصدق أخوتنا.. التف حولها الزملاء.. يحبون حديثها.. هى نور وهم فراشات حولها.. أحيانا يستحوذني حديثها أنسى أنها شقيقتي.. أتأملها.. أردد في نفسي:
(ليتني مكانها).. أهمس في أذنها:
- كفى يا نور وإلا أخبرت ماما.
في البيت أفاجأ بها" سبقتني واشتكت" وأفاجأ بأمي:
- أنت المخطيء.. أحرجت أختك أمام زملائها.. أنت تغار منها.
أصمت.. يجب ألا تفشل خطتي.. أن تضمني أمي إلى حنانها.. وتعلن أنني أفضل من نور.
لا تزال أمي تكفكف دموعها.. توسلت إليها:
- كفى دموعا يا أمي.
- اتركني يا ولدي.. أنا سعيدة بهذه الدموع.. اتركني أعوض الأيام التي جفت فيها دموعي، فتشقق قلبي كالأرض "الشراقي".. أنا اليوم كيوم سمعت بالخبر المشئوم.
ملت بظهري إلى الوراء.. كنا عائدين من الجامعة.. عرض زميل أن يوصلنا بسيارته.
-                  لا.. ألف شكر.. طريقنا مختلف.. وأنت متهور في القيادة.
تحدتني:
- ولكنني أريده أن يوصلنا.
- وأنا مصر على الرفض.
- هذا شأنك.. يمكنك الانصراف إذا أردت.؟
- إذن هي خطة لإغضابي.!.. سأذهب معكما وسأخبر ماما.
وجودي ضايق الزميل الولهان.. انعكست عصبيته على القيادة و.. كان الحادث الهائل.. نور ضحيته بينما لزمت أنا والزميل فراشينا بالمستشفى فترة ليست بالقصيرة.
كانت أمي تحمل من الأعوام والأمراض ما لا يتيح لها تحمل الصدمة.. أصيبت بشلل نصفي.. ولزمت المشفى في رعاية الأطباء فترة مرضي.. عدنا إلى البيت معا.. لا أحد يمرضها غيري.. لا أحد يسهر بجانبها سواي.. وهي تكافئني بنظرات العتاب.. ولفتات الاتهام.. أزدرد ريقي في صمت.. وكيف لي الدفاع ضد من مات.!!
-                  تفضلي يا ست الحبايب.. موعد الدواء.
-                  الرجال لا طاقة لهم على التمريض.. غدا تضعني في ملجأ.
-                  اطمئني يا أمي لن يأتي هذا اليوم أبدا.
-     غدا ستتركني.. غدا سترميني.. ويأتي غدا وبعد غد ولا أتركها ولا تكف.. وتخطيت الثلاثين.
شعرت بشوق إلى الاستقرار.. بحنين إلى الأسرة والطفل.
-     ما رأيك يا ست الحبايب.. فتاة طيبة.. ومهذبة.. زميلتي في الشغل أريد الزواج منها.؟
-                  ابتسمت في استهزاء:
-                  جاء الغد الذي أكلمك عنه.. حان وقت وضعي في ملجأ.
تنبهت.. لم يكن ترديدها البيت بارد تنقصه الأنثى لحثي على الزواج كما توهمت.. أبعدت الفكرة تماما.. لم تعد تراودني و.. تفرغت لها.
ناهزت الأربعين.. في الصباح أذهب إلى عملي.. أتركها في رعاية جارتنا.. بجوارها الراديو والتليفون.. عند عودتي.. أظل قابعا بجوار سريرها.
-     نادرا ما تسمح لي بأن أخرج في المساء.. أتمشى قليلا أو أجلس في المقهى.. وعندما أعود تسألني:
-                  أين كنت.؟.. ماذا فعلت.؟ 
وأحكي لها بالتفصيل.. وما وراءنا غير أن أحكي بالتفصيل:
- مر ماسح الأحذية.. نادى بائع اليانصيب على أوراقه.. تشاجر سائقان في الطريق.. بالشارع حفر كثيرة إلتوت ساقي.. فوانيس الشوارع ثلثاها معتم.. الزحام شيء فظيع.. الناس تصطدم ببعضها.
- هل تريد معلومات أكثر عن عروسك.. هي في العشرين.. غير متعلمة.. أسرتها متواضعة لم تقدر على تعليمها.. وهذا أفضل.. تتفرغ لخدمتك.. وتعفيك من خدمتي.. أهلها يرحبون بدك جدا.. متى ستذهب إليهم.!
ناهزت الأربعين.. مظهري يفوق سني.. عود محني جاف.. وجه بارد مجعد.. شعر باهت رمادي اللون.. صوت رزين يصدر من أعماق جب مهجور لا من أعماق انسان.. وأكثر من هذا وذاك لم أتعود غير كلمة واحدة.. نعم.. أما اليوم فاسمحي لي .. أرغب أن أقول لك لا.. لن أتزوجها.
حواء: 28 يناير 1989
****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق