مستحِقُّو الصدقة
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ(272)لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(273)الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(274(
المناسبة:
نزلت
الآية في الحث علي النفقة فقد كان بعض السابقين إلى الإسلام كانت لهم قرابات لم تسلم. وكان هؤلاء الأقرباء من الفقراء وكان المسلمون يحبون أن يعطوا
هؤلاء الأقارب الفقراء شيئا من مالهم، ولكنهم
تحرجوا أن يفعلوا ذلك فسألوا رسول الله (صلى) في هذا الأمر.
وهاهي
ذي أسماء بنت أبي بكر الصديق وأمها "قتيلة" كانت مازالت كافرة. وتسأل أسماء رسول الله (صلى) أفأصل أمي؟ قال:
"نعم صلي أمك".
ولقد
أراد بعض من المؤمنين أن يضيقوا على أقاربهم ممن لم
يؤمنوا حتى يؤمنوا، لكن الرحمن الرحيم ينزل القول الكريم:
"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء".
إنه الدين المتسامي. دين يريد أن نعول المخلوق في الأرض من عطاء الربوبية وإن كان لا يلتقي معنا في عطاء الألوهية؛ لأن عطاء الألوهية تكليف، وعطاء الربوبية رزق وتربية.
والرزق
والتربية مطلوبات لكل من كان على الأرض؛
لأننا نعلم أن أحداً في الوجود لم يستدع نفسه في الوجود،
وإنما استدعاه خالقه، ومادام الخالق الأكرم هو الذي استدعى العبد مؤمناً أو كافراً، فهو المتكفل برزقه. والرزق شيء، ومنطقة الإيمان بالله شيء
آخر،
وإذا
كان الإسلام قد جاء ليواجه النفس البشرية بكل أغيارها .
وكان رسول الله (صلى) يحب حين ينزل أي أمر أن يلتفت المسلمون إليه لفتة الإقبال بحرارة عليه، فإذا رأى تهاوناً في
شيء من ذلك حزن، فيوضح له الله: عليك أن
تبلغهم أمر الله في النفقة، وما عليك بعد ذلك أن يطيعوا.
"ليس عليك هداهم"
وهناك فرق بين هداية الدلالة وهداية المعونة، فالله يهدي المؤمن ويهدي الكافر أي يدلهم، ولكن من آمن به يهديه هداية المعونة، ويهديه هداية التوفيق، ويهديه هداية تخفيف أعمال الطاعة عليه.
وما تنفقوا من خير فلأنفسكم" تلك قضية تعالج الشح منطقياً، وكل معطٍ من الخلق عطاؤه عائد إليه هو، ولا يوجد معطٍ عطاؤه لا يعود عليه إلا الله.
العارف
بالله "الحسن البصري" كان إذا دخل عليه من
يسأله هش في وجهه وبش وقال له: مرحباً بمن جاء
يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة.
"وما تنفقوا من خير يوف إليكم" ومعنى التوفية: الأداء الكامل. ولا تظنوا أنكم تنفقون على من ينكر معروفكم؛ لأن ما أنفقتم من خير فالله به عليم.
إذن
فاجعل نفقتك عند من يجحد، ولا تجعل
نفقتك عند من يحمد، لأنك بذلك قد أخذت جزاءك ممن يحمدك وليس لدى الله جزاء لك.
كنت أقول دائما للذين يشكون من الناس نكران الجميل ونسيان المعروف: أنتم المستحقون لذلك؛ لأنكم جعلتموهم في بالكم ساعة أنفقتم عليهم، ولو جعلتم الله في بالكم لما حدث ذلك منهم أبداً.
"وما
تنفقوا من خير فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه
الله"
أهذه
الآية تزكية لعمل المؤمنين، أم خبر أريد به الأمر؟
إنها الاثنان معا،
" أنتم لا تظلمون من الخلق، ولا تظلمون من الخالق،
أما من
الخلق فقد استبرأتم دينكم وعرضكم حين أديتم بعض حقوق
الله في أموالكم، فلن يعتدي أحد عليكم ليقول ما يقول، وأما
عند الله فهو سبحانه يوفي الخير أضعاف أضعاف ما أنفقتم فيه.
وبعد ذلك يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن مصرف من مصارف النفقة كان في صدر الإسلام: "لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه"
وساعة
أن نسمع "جاراً ومجروراً" قد استهلت به آية
كريمة فنعلم أن هناك
متعلقاً.
ما هو
الذي للفقراء؟ هو هنا النفقة، أي أن النفقة للفقراء الذين
أحصروا
في سبيل الله. وإذا سألنا: ما معنى "أحصروا" فإننا نجد أن هناك
"حصر" وهناك "أحصر" وكلامهما فيه المنع،
إلا أن المنع مرة يأتي بما لا تقدر أنت على دفعه، ومرة يأتي
بما تقدر على دفعه.
فالذي مرض مثلاً وحصر على الضرب في الأرض، أكانت له قدرة أن يفعل ذلك؟
لا،
ولكن الذي أراد أن يضرب في الأرض فمنعه إنسان مثله فإنه يكون ممنوعاً، إذن فيئول الأمر من الأمرين إلى المنع،
فقد
يكون المنع من النفس ذاتها أو منع من
وجود فعل الغير،
فهم أحصروا
في سبيل الله. حصروا لأن الكافرين يضيقون عليهم منافذ
الحياة، أو حصروا أنفسهم على الجهاد، ولم يحبوا أن يشتغلوا بغيره؛ لأن الإسلام كان لا يزال في حاجة إلى قوم يجاهدون.
وهؤلاء
هم أهل الصفة "للفقراء الذين أحصروا
في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض" وعدم استطاعتهم ناشئ من أمر خارج عن إرادتهم أو من أمر كان في نيتهم وهو أن يرابطوا في سبيل الله، هذا
هو الجائز وذاك من الجائز.
وإذا نظرنا إلى قول الحق: "لا يستطيعون ضرباً في الأرض"
و"الضرب" هو فعل من جارحة بشدة على
متأثر بهذا الضرب، وما هو الضرب في الأرض؟
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أن الكفاح في الحياة يجب أن يكون في منتهى القوة، وإنك حين تذهب في الأرض فعليك أن تضربها حرثاً، وتضربها
بذراً، لا تأخذ الأخر بهوادة ولين.
"يحسبهم
الجاهل أغنياء من التعفف " أي
يظنهم بأحوالهم أنهم أغنياء، وسبب هذا الظن هو تركهم للمسألة، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول بعدها:
"تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا"
و
"السمة" هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها، فكأنك ستجد فيهم
خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم
يسألوا أو يطلبوا، ولكنك تعرفهم من حالتهم التي تستحق الإنفاق
عليهم.
، ولو
أنهم سألوا مجرد سؤال بلا إلحاف ولا إلحاح
أما كان هذا دليلا على أنهم ليسوا أغنياء؟ نعم، لكنه قال:
"يحسبهم
الجاهل أغنياء من التعفف"
إذن فليس هناك سؤال على إطلاقه
"تعرفهم بسيماهم"، ولو أنهم سألوا لكنا قد عرفناهم بسؤالهم، إذن فالآية تدلنا على أن المنفي هو
مطلق السؤال،
و
"الإلحاف" جاءت لمعنى من المعاني التي يقصد إليها الأسلوب الإعجازي، ما هو؟
"إن "السما" هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها، فكأنك ستجد خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا، أي أنت تعرفهم من حالتهم البائسة، ومادامت حالته تدل على الحاجة فكان يجب أن يجد من يكفيه السؤال، فإذا ما سأل مجرد سؤال فكأنه ألحف في المسألة وألح عليها.
وأيضا يريد الحق من المؤمن أن تكون له فراسة نافذة في أخيه بحيث يتبين أحواله بالنظرة إليه ولا يدعه يسأل، وهي فطانة إيمانية.
ولنا العبرة في تلك الواقعة، فقد دق أحدهم الباب على أحد العارفين فخرج ثم دخل وخرج ومعه شيء، فأعطاه الطارق ثم عاد باكياً فقالت له امرأته:
ما
يبكيك؟. قال: إن فلاناً طرق بابي. قالت: وقد
أعطيته فما الذي أبكاك؟.
قال: لأني تركته إلى أن يسألني. إن العارف بالله بكى؛ لأنه أحس بمسئولية ما كان يجب عليه أن
يعرفه بفراسته، وأن يتعرف على أخبار إخوانه .
ولذلك
شرع الله اجتماعات الجمعة حتى يتفقد الإنسان كل أخ من
إخوانه،
ما الذي
أقعده: أحاجة أم مرض؟ أحدث أم مصيبة؟ وحتى لا يحوجه إلى أن يذل ويسأل، وحين يفعل ذلك يكون له فطنة الإيمان.
واعلم
أنه قبل أن تعطي قد علم الله أنك ستعطي، وكل فعل من الأفعال له زمن يحدث فيه، وله هيئة يحدث عليها. والزمن هو الليل والنهار.
فإياك أن تحجز عطية تريد أن تعطيها وتقول:
"بالنهار
أفعل أو في الليل أفعل؛ لأنه أفضل" وتتعلل بما يعطيك الفسحة في
تأخير العطاء، إن الحق يريد أن تتعدى النفقة منك إلى الفقير
ليلاً أو نهاراً، ومسألة الليلية والنهارية في الزمن، ومسألة السرية والعلنية في الكيفية لا مدخل لها في إخلاص النية في العطاء.
وقال:
"سرا وعلانية" فأنفق أنت ليلاً، وأنفق أنت نهارا، وأنفق أنت سراً، وأنفق أنت علانية، فلا تحدد الإنفاق لا بليل ولا بنهار، لا بزمن ولا
بكيفية ولا بحال.
"فلهم
أجرهم عند ربهم"
"فلهم"
يدل على عموم الموضوع لا على خصوص السبب، فكأن الجزاء
الذي رتبه سبحانه وتعالى على ذلك شائع على كل من يتأتى
منه هذا العمل.
و "أجر" تعطينا لمحة في موقف المؤمن من أداءات الإنفاق كلها؛ لأن الأجر لا يكون إلا عن عمل يدل على أن المؤمن يجب أن ينظر إلى كل شيء جاء عن عمل فالله يطلب منه أن ينفق منه.
وهي من
المخلوق المساوي "ثمن"، وهي من الخالق الأعلى أجر.
لأنك لا
تملك شيئا أصلا.
"و لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"
"الخوف"
هو الحذر من شيء يأتي، فمن الخائف؟ ومن المخوف؟ ومن المخوف عليه؟
"ولا خوف عليهم" ممن؟
يجوز أن يكون "ولا خوف عليهم" من أنفسهم؛ فقد يخاف الطالب على نفسه من أن يرسب، فمن الجائز أن يكون حول كثير من الأغنياء أناس حمقى حين يرون أيدي هؤلاء مبسوطة بالخير للناس فيحرضونهم ليمسكوا مخافة أن يفتقروا. لكن أهل الخير لا يستمعون لهؤلاء الحمقى.
إذن فـ"لا خوف عليهم" من أنفسهم، ولا من الحمقى حولهم. ويتابع الحق:
سيفرحون
حين يواجهون بحقائق الخير التي ادخرها الله سبحانه وتعالى
لهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق