فى كل زمان
زمان قبل عشر سنين
وسبع، كان لها من الأيام سبعة.. وضعوها فى الغربال.. تمرمر جسدها المائى مع دقات
الهون، يحشرون فى أعماقها حشرا الكلمات المغموسة فى العسل المسموم.
"اسمعى كلام
أمك، اسمعى كلام أبوك"
كانت تناغى وتناغى..
لكنها تسمع و.. تعى.
وسط الزغاريد
والتهانى دسوا فى أذنها دسا سن الأبرة المتوهج.
كانت تبكى وتبكى
لكنها.. لما كبرت فرحت بالحلق.
ابنة العاشرة تقفز
فى الطريق، تنط الحبل تلعب الحجلة، تذهب للحانوت.. لكنها لا تنسى فى ذهابها
وإيابها أن تنهر الصبية.. تقصيهم من طريقها، ومن ذهنها كما حذرتها أمهما، وتوعدها
أبوها.
كل الكلمات الآمرة
الناهية يقظة فى أعماقها.. ترن فى احساسها كالناقوس المنضبط:
-
إياك واللعب مع من يرتدون الجلباب، والبنطلون.
رأسها يرتفع وينخفض مع الكلمات.. وها هى ذى تنفذ ما وعت تماما.
لكنهم لم يكتفوا..!
زمان قبل سبع سنين كان لها من الأعوام عشرة.
يتمخض جسدها بين أيدى نسوة ضخام الأجساد.. أكثرهن جثة، أكثرهن قسوة، تمسك بالموس..
تقطع جزءا حساسا من جسدها.. كانت تصرخ وتصرخ لكنها.. فارت و.. ادورت .
ابنة السبعة عشرة تخفض جفنيها، ويتورد وجهها كلما سمعت كلمة إطراء
لجمالها.. لكن الخجل لم يمنعها من أن تسعد، واسمها.. "سعادة".
و.. لم يطل الانتظار.
دروس الطفولة لم تصمد أمام نظرات ابن الجيران الولهانة.. نفذت إلى أغوارها
واسمه.. "لئيم"
مستها الكلمات الساحرة، أضاءت وجهها أكثر مما فعل الحلق.
لمسة يده ألهبت جسدها أكثر مما ألهبته سكين المرأة الضخمة.
لما رآها الأب تكلم لئيم عند الترعة أقسم ألا تبيت أمها فى الدار..
فالبنت جريرة أمها.. مرددا:
( اكفى القدرة عل فمها تطلع البنت لأمها)
حبسها فى الدار وشدد الخناق.. لكنها يوم اختناق القمر مخسوفا استطاعت أن
تلحق بأترابها وهم يغنون من تراثهم:
يا بنات الحور سيبوا القمر للنور
يا سيدنا يا بلال فك زنقة الهلال
يا سيدنا يا عمر فك زنقة القمر
لما تطرف الأولاد عن دائرة الدار والدوار، وغمرهم الاحساس بالمسئولية.. فلن
يلقوا بحللهم وصفائحهم التى يدقون عليها حتى تقلع بنات الحور عن القمر، ويتركن
زمارة رقبته ليعود إلى وجهه نضارته وبهاؤه.. وها هم قد تشفعوا بسيدنا بلال وسيدنا
عمرأن يفكا الكرب.
لكن "لئيم" له رأى آخر.. يدونه فوق طبلة أذن "سعادة":
-
لن تفك زنقة القمر إلا بعد أن ترضى عنى .
وترد سعادة فى بلاهة:
-
هو انت مخسوف مثل القمر!
ويرد بوقاحة:
وبنات حواء طابقات فوق زمارة رقبتى.. أريدك أن تخلصينى منهم.
-
ارفع يدك يدك يا لئيم.. ابتعدنا عن الأولاد كثيرا.
-
اتركيهم وتعالى تزفنا عيدان القصب.. وتلحقين بهم فى عودتهم.
علقت عيناها بالقمر تستنجد به، فوجدته حزينا.
قالت:
-
القمر حزين يا لئيم.
قال:
-
إذا ابتسم القمر سخر منا، وضيع منى سعادتى.
مدت يدها تحتمى بعود القصب.. مال معها بكامل جزعه، ثم عاد ليقف مترنحا
لينقل تخبطه لباقى العيدان الواقفة بجواره.. شواطيء القصب تحت القمر المقهور،
مقهورة مثله.. مترنحة ونافشة شعورها كالأشباح، فتزيد الليل وحشة، ولئيم لا يضيع
الفرصة.. لكنه ضيع الود..
ترى البنت وجهها فى عينيه مزرودا.
مع السائل الساخن سمعت عواء أحشائها.. سخونته هذه المرة أحر من أى نزيف سال
من جسدها.. يوم أن غزوا أذنيها بسن الإبرة
المتوهج، ويوم أن هذبوا أنوثتها بحد الموس المسنون..
هذه المرة شعرت بنزيف القلب يوم طردت أمها ملعونة بلعنة البنت ولم تسقط
بعد.. فماذا الآن..؟
فى شريعة الجنوب ليس إلا حل وحيد ليرفع الأب رأسه.. تجسد أمامها المستقبل
بكل وحشيته، وأدركت الثمن الذى يجب أن تدفعه.
انقشعت الغمة عن القمر، لكن وجهها لا يزال فى عينيه مزرودا، وقلبها فى
صدرها محصورا.. صكت وجهها:
-
وما العمل يا لئيم..؟
-
لا تخبرى أحدا وأنا سوف أتصرف.
ولم تخبر أحدا، ولكن الوهن على وهن أفصح.. ولئيم لم يتصرف ولكن تقاليد الأب
تصرفت.
بينما أفزعت الأم سكون الليل بصراخها على البنت الحلوة ذات السبعة عشر
ربيعا.. كان لئيم يفزع عيدان القصب من جديد
............................
أكتوبر/6ديسمبر1998
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق