الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

صابحة وأخواتها


صابحة  وأخواتها

يا هلا ومرحبا   حللتم أهلا، ونزلتم سهلا
وقفت صابحة مشدوهة وهى ترى آلاف الجنود يقتحمون فضاءها آلافا مؤلفة لاتعرف عددهم   فجأة وجدت صحراءها مزروعة بالبشر    ملأوا كل شبر فيها   وقفت مذهولة وهى ترى الأقدام الثقيلة رغم ذعرها تزلزل الأرض فتثير النقع الذى يغطى سماءها ويشبّع هواءها النقى بغيوم غير ما تعرف من غيوم، وزادت حيرتها وهى ترى رجال قبيلتها وشبابها يقبلون هاشين باشين، وعلى ألسنتهم كلمات الترحيب ، والأذرع على اتساعها يحتضنون الرجال مهدئين من روعهم
ركضت على مجتمع النساء سمعت إحدى أخواتها تقول
إنهم جنود مصريون منسحبون من معركة غادرة    هم أولادنا وإخوتنا وضيوفنا   هيا لإكرام الضيف
لم تتساءل واحدة منهن كيف تكون الاستضافة لكل هذا العدد بل عرفت كل واحدة دورها   وقبل أن ينادى الرجال على نسائهم ويأمروهن كانت الأفران قد اشتعلت واندلق الماء فوق الدقيق، وتشمرت سواعد صابحة وأخواتها تعجن وتلقى فى قلب اللهب فيخرج خبزا، وفطيرا   والمواقد اشتعلت وارتفعت فوقها الحلل والبرادات
بيوت المنطقة كلها فتحت أبوابها للضيوف   الخيام ضربت فى كل مكان وصابحة وأخواتها يجمعن ملابس البدو، يوزعنها على الجنود ويأخذن لبس الجندية يخفينه بين الأحراش
عشرات بل مئات من النوق، والخراف، والجديان سلمت رقبتها لسكين الكرم والجود، وصابحة  وأخواتها يطبخن ويقطعن البطاطس ويصنعن الثريد وجميع أنواع الخضراوات  والبقول من أجل الجنود    قالوا فيما بعد أنهم     ألف جندى
وما أن حل المساء حتى انشغلت صابحة وأخواتها بتنظيم أماكن المبيت    الضيوف داخل الدور، والخيام، أهل البيت فى العراء، يتناوبون السهر والحراسة   يرقبون الطريق   يرمون أى ظل لعدو يقترب بالغدر
كان عقل صابحة يدور بأسرع مما اعتاد عليه من قبل، فهى حتى الصباح لم يخرج تفكيرها عن حدود خيمتها ومجتمعها، ولا تزيد شئون حياتها عن رعى الغنم فى خلاء سيناء هذا الخلاء الذى تعرف دروبه ومسالكه جيدا
وتعيش فى أمان فضائها الرحب مع زوجها البدوى الذى يرعى الغنم معها بالتبادل، ويصنع بالتبادل أيضا السجاد والثوب البدوى المشهور بتطريزه الذى تحكى عنه كل الدنيا
فإذا بها فجأة تعرف أن لها عدوا انتهك حرمة صحرائها صباح اليوم حيث انطلقت مائة طائرة إسرائيلية، وقامت بضرب جميع مطارتنا المصرية، ووضعت يدها على مراكز القيادة والاتصال الموجودة فى سيناء
وبينما عقلها يأخذ ويعطى فى سكون الليل إذا بها تسمع تأوهات   صابحة تتسلل على أطراف أصابعها مقتفية أثر الصوت   تراه يتلوى، والألم يعتصر أمعائه   يراها مقبله بحذر    يمد لها كف الضراعة، يشير ناحية بطنه   تلحظ لزوجة الدم    تقترب أكثر، تلمسه بأطراف أناملها تشعر بسخونته    يختفى الحذر والتردد تقبل عليه تحتضنه   تجذبه إليها   تنزع ثيابه من فوق الجرح كما تنزع ثياب طفل برئ، تدرك مدى الإصابة، وخطورتها   يرف قلبها   تأخذه بعيدا عن النيام، فأنينه لا ينقطع
فى خدرها، تغلى أعشابها المطهرة   تغسل بها الجرح، وتعقمه   لكنه متسع، لا يمكن أن يترك هكذا   تبحث فى ملابسها وفى خزانتها عن الابرة التى تطرز بها ثوبها   تدرك أن هذا الخيط لايصلح للمهمة التى كلفها بها ضميرها، تبحث عن غيره، تمتد يدها إلى رأسها، وتنسحب نازلة فى هدوء   تتحسس شعرها الطويل السميك كذيل الخيل   ميزة للسيناويات حبتهن بها الطبيعة   تنزع واحدة من جذورها تدس طرفها فى سم الخياط   تخيط الجرح بأصابع ماهرة، تعودت على صنع المنمنمات   يهدأ  الجندى ويخلد للنوم، تظل إلى جواره، تجفف عرقه، وتتابع الحمى
يتسلل إلى داخل الخيمة رجلها    يحدث شهقة مكتومة    زوجته          التى تلبس النقاب على وجهها، وجلبابا فوق جلباب على جسدها فلا يلمح الطير طرفها   يراها   مخففة الثياب محلولة الشعر، ورجل أجنبى يرقد فى فراشها تجفف عرقه بيد والأخرى فوق بطنة   تتمتم بكلمات لم يتبينها فى البداية    يقترب فى حذر، يميز الكلمات  آيات من كتاب الله ، ومن اللمحة الأولى يدرك الأمر   ويقف على الجانب الخفى فى زوجته، هذه التى تخشى رؤية ذبح الدجاجة وإسالة دمها   تفعل كل هذا بمفردها   يقبّل الزوج يدى زوجه ويدعو لها بالصحة والعافية، ثم يتركها تكمل مهمتها المقدسة
تعاونت صابحة وأخواتها على توفير الأمن والخبز فكن كتيبة الإمداد والتموين بحق
أما رجال القبيلة فكان همهم البحث عن أسلوب مناسب لتوصيل هؤلاء الجنود إلى ديارهم فى أمان بعيدا عن عيون العدو، متوعدين بإهلاك من يحاول النيل منهم
وبدأت رحلات العودة تحت أستار الليل وسكونه، بالمراكب مجموعات مجموعات ينتقلون من البحيرة إلى بورسعيد، وهناك يستقبلهم رجال المخابرات
أبنائى الأعزاء   لم يكن فى مقدورى العودة مع العائدين الأوائل فصابحة لم تسمح لى بالانتقال قبل تمام الشفاء، لكنها سمحت لى بالجلوس عند باب دارها   تعجبتُ من أمرها وهى تنظر لى مليا ثم استدارت إلى زوجها قائلة وكلها حماس
وماذا بعد ياشيخ    هل نبقى على حالنا نرعى الغنم ولانعرف شيئا مما يحدث حولنا، حتى إذا فاجئنا سرب من الجنود نفخنا النار   طهونا الطعام، وضمدنا الجروح     لا والله إن هذا لايكفى ولا أقبل إلا بأن تبحث لك عن دور، وتبحث لى معك، وأول كل شىء أريد مذياعا صغيرا أشبكه فى حزامى أينما سرت، أعرف منه مايحدث على أرضى
ضحك زوجها وقال هذا والله ما توقعته منك منذ أن رأيتك تخيطين  لهذا الجندى جرحه بشعرك   فصابحة الجديدة لا ترضى بدورها القديم أبدا   وقد صرت خير أنيس أتبادل معه الرأى ووجهة النظر، الدور موجود يا ابنة الحلال   فخلال توصيلى للجنود وتسليمهم لرجال المخابرات كنت أقوم ببطولات وحيل ما كنت أحسبنى قادرا عليها، ولكن الموقف هو الذى يملى علينا الفعل، فكنت فى الراحة والجاية أذبح لى إسرائيليا يحاول أن يعترض طريقنا ثم أقطع أذنيه وأحملهما معى وأسلمهما مع الجنود لرجال المخابرات، وكنا نضحك من طول هذه الأذن واعوجاج تلك   وأما الجنود الذين أكرمناهم وأويناهم بين أهلينا فكانوا يردون لنا الجميل بالمديح وذكر مافعلناه معهم وما ينطوى ذلك على وطنية عالية   فما كان من رجال المخابرات إلا أن عرضوا علىَّ العمل معهم
فغرت صابحة فاها وهى تصيخ السمع
فاستطرد منتشيا
أنا الآن مجند ياصابحة، ومكلف بأن أكون عينا على اليهود    أرصد تحركاتهم وأبلغها أولا بأول
فرحت سلمى وقالت
قاطعه الأبناء فى صوت واحد
صابحة يا أبى لا سلمى
لايهم فسلمى من أخواتها، ورابحة، وسليمة، وكثيرات    كثيرات، كلهن قمن بالدور نفسه    فصابحة وأخواتها يرفعن العبء الأكبر على أكتافهن، وذلك بعد أن ينصتن إلى الخبر، ولكل واحدة منهن بصمة توج بها جبين الفترة
لا بأس يا أبى  لتكن سلمى    أكمل الحكاية
فرحت سلمى وقالت
هذه والله مهمة مايقدر عليها إلا النساء   أنا أرعى الغنم فى الصباح وأرصد لك كل شىء تراه عيناى، وأنت توصله بإذن الله
وقامت البدوية بأدوار بطولية دون أن يشك فيها أحد   وبلا ورقة ولا قلم ترصد تحركات العدو    تسجلها فى ذاكرتها
مر رتل من الدبابات   عدد كذا من جنود العدو   بناء مستوطنة فى مكان كذا   ثم تطلع بغنمها خلف زوجها وهو ذاهب لتوصيل ما جمّعت له من معلومات لتمحو آثار قدميه
لم يتصور العدو أن لراعية الغنم رأسا يفكر، ويحمل فى طياته ما يهلكهم، ويسخر منهم  لذلك لما سقطت طائرة مصرية بها طياران أسرعت بهما دون تردد إلى خيمتها، وألبستهما ملابس البادية، وفى الحال حفرت حفرة أمام خيمتها دفنت فيها زيهما العسكرى وكل متعلقاتهما، فيدها الخبيرة المدربة عاونتها على انجاز مهمتها بالسرعة المطلوبة قبل وصول العدو   وتركت الجنود الإسرائيليين يفتشون خيمتها دون خوف منها، وكلما فشلوا فى الوصول إلى شىء ازدادت ابتسامتها تحت نقابها وسخرية عينيها
وظل الطياران يعيشان حياة البادية    يرعيان الغنم حتى تيسرت لهما العودة
كيف فعلت صابحة كل هذا يا أبى
فعلت هذا بدافع الأمومة والمروءة دون أن يدون اسمها فى سجل الأبطال
أمام الأعين المفتوحة على اتساعها والآذان المرهفة والوجوه التى تحمل الدهشة والإعجاب يستمر المحارب القديم فى سرد الحكاية
لقد كانت دهشتى أشد    عشت فى هذا العزف الجماعى يا أبنائى الذى كان يتم فى تناغم مكتمل دون قائد يوجه، حمدت الله على جرحى الذى أبقانى بين صابحة وأخواتها حتى امتلئت ذاكرتى بحكايات مدهشة عن صابحة وأخواتها،  وسجلتها عدستى البصرية
فشاهدتها وهى تحمل الرسائل وتخفيها بين طيات ملابسها أو بين ضفائرها وتوصلها فى أمان   وأكثر من هذا كانت تقوم بتوصيل الذخيرة والقنابل والمتفجرات وسط الخبز فى مشنة تحملها على رأسها أو فى لفائف رضيعها على يديها   كانت تسير بكل ثبات وشموخ، لقد اختارت بإرادتها بين شيئين أحلاهما مر   إما أن يكشفها العدو ويقبض عليها فتعذب، وإما أن تنفجر حمولتها وتخسر حياتها
صاح أحدهم
ولكن من أين تأتى البدوية بالقنابل وإلى أين تنقلها يا أبى
تنقلها للفدائيين الذين يقومون بعمليات تدمير للمواقع الإسرائيلية من حين لآخر   أما من أين فهذا دور جديد لهؤلاء البواسل، هذه القنابل يصنعها البدو بأنفسهم وداخل بيوتهم، وخيامهم    وكم من مفارقات ومخاطر تحدث أثناء هذه العملية    فهناك فى شمال سيناء يحكون عن إحدى أخواتها وينادونها بالأم المثالية   هذه الأم كان ابنها يصنع القنابل فى بيته وحدث انفجار ومات
أتدرون ماذا فعلت الأم عندما رأت ابنها يتفتت أمام عينيها    ؟
ماذا يا أبى؟
شعرت بأنهم قادمون بسبب ما دوى من صوت   أسرعت بلم أشلاء ابنها مع المتفجرات وأخفتها فى الحال، وقبل ذلك أخفت الأوراق والخطط فى صدرها حتى لايتعرفوا على زملاء ابنها
هل كان هناك وقت لأن تجلس هذه الأم لتندب ابنها الذى فقدته، وتتحصر على شبابه المهدر
ياه يا أبى إن كلا من صابحة وأخواتها عاشت الحزن المرير
وتحول حزن قلبها فى    إلى زغرودة ملأت كل القلوب المصرية، فهؤلاء جميعا هم أبناؤها، وأنا منهم قاتلت باستماتة من أجل صابحة وأخواتها   هجمت على العدو بكل الغل أفتك به وأقصيه بعيدا بعيدا عن ديار صابحة، وسلمى، ورابحة، وعزة، خوفا من أن تنتهك حرمة البدوية التى خرجت من شرنقتها لتمنحنى الحياة قبل ست سنوات أمضيتها فى تدريب على أعلى مستوى   ولم يهدأ لى بال حتى اندمج صوتى بصوت كل الجنود فى عزف ملهم مرددا الله أكبر، الله  أكبر وعيناى تنهمر دموعهما وهما تريان علمنا المصرى فوق أعلى حصن كان محتلا
فلرابحة وأخواتها فضل التمهيد لانتصار أكتوبر
نعم   فلم يكن النصر وليد يوم وليلة، لكنه كان نتاج سنين طويلة صهرت الرجال فى بوتقة الكفاح، ورفعت النساء لمرتبة البطولة، وكان لصابحة وأخواتها رصيد من التضحية والفداء
............................
الأهرام/15أكتوبر1999

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق