الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

آخر زمن


آخر زمن


فى الطريق الممتد بلا نهاية، والنسمة تداعب أوراق الشجر على استحياء بعد طول غيابها منذ الظهيرة.. والصديقان يمران بفانيس الشارع الطويل وأشجاره العالية، فتارة تلقى بضوئها على وجهيهما، وأحيانا تخفى نفسها خلف أوراق وأفرع الأشجار، وبعد طول صمت سعل ماهر وتنحنح وقال:
-       الناس معادن يا صديقى.
-       أى نعم.. المعادن أنواع منها الرديء ومنها النفيس
-       إننا متفقان دائما أليس كذلك..؟
-       ولماذا الاختلاف وأنت تجرنى جرا لكى تقدم لى واجبا فى ناديك الفخيم.
ضحك ماهر بخبث قبل أن يلملم سترته على صدره ويقول:
-       لا تظن أننى أدعوك لوجه الله.
-       المهم أن تفصح صراحة عما فى رأسك وتلمح به منذ عدة أيام.
اضطراب ماهر يخفيه فى حركات لا إرادية، فتارة يمرر يده فوق شعره الناعم، وترة يلمس ذقنه فى توتر يحاول ألا يبديه.. استدعى الابتسامة الباهتة وقال:
-       لا بل اختلفنا.
-       فيم..؟
-       أنا تزوجت وأنجبت وأنت لاتزال حرا.
ضحك سمير فى بلاهة وقال:
-       كلما رأيتك شاكيا متبرما من الزواج وتبعاته أتردد ألف مرة.
يصر ماهر على أن يغلف كلامه بالبسمة الخبيثة ويقول:
-  الحقيقة أن زوجتى لا عيب فيها.. امرأة نادرة.. جميلة الوجه والقوام، شابة ولينة و........
قطع كلامه وتفرس فى وجه صاحبة الذى لم يظهر عليه ما يدل على أى فهم.. فلما وجده شاردا فى اللا شيء سأله:
-       قل لى لماذا لم تعد تأتينا كما كنت.
-       لا شيء مشغول إلى حد ما.
-       وكيف تقضى أيامك..؟
رد سمير فى غير اكتراث:
-       نسكن فى بيت واحد ولا تعرف كيف أقضى أيامى..؟!
-       أقصد لياليك..  يا رجل افهم.
-  ماذا أفهم، وأنت تعرف عنى كل شيء.. وعلى كل حال أقضيها فى سبات عميق.
"يبدو أنه لا حل غير المصارحة"
قالها ماهر وهو يبث فى نفسه نفحة من الثبات، فازداد طولا وعرضا وإن لم تخفِ القوة المصطنعة حمرة وجنتيه.. لكزه وقال:
-  المرأة.. أتكلم عن المرأة يا صديقى.. ما موقفك منها.. أنت وسيم وخفيف الظل .. وفوق هذا مكتمل الفتوة كما يبدو لى.
أجاب سمير وهو مستمر فى عدم اكتراثه بهذا الحوار الممل.
-       كلما صادفتنى كأسا شربتها وانتهى الأمر.
غمغم :
- ولكنه لن ينتهى بالنسبة لى
-       ماذا تقول..؟
-       لا شيء .. يالك من ماكر.. تشرب كئوس الآخرين ولا تدفع مليما.
انتبه سمير فقال فى تحدٍ.
-       كيف لا أدفع.. !! والعافية..؟
-  قهقه الرجلان رغم الاضطراب الذى انتاب كلا منهاما.. ثم قال ماهر وهو يربت على كتف زميله.
-  ولا يزال منها الكثير.. وإنى لأرجو أن تكون عافيتك من النوع "الواى" Y لا كعافيتى التى نوعها الوحيد "الاكس" X
-       لا تفرق.
-       تفرق كثيرا معى.
-       لك أربع بنات جميلات .. سوف يجلبن لك أربعا من خيرة الشباب.
-  لن أسعد بهم بالتأكيد الولد الوحيد الذى أتمناه وأريده يرث أملاكى بشرط واحد هو أن يحمل اسمى ويفهم بأننى أبوه حتى لو كان من غير صلبى
-       ماذا..؟ أتريد أن تتبنى طفلا..؟
-  لا يارجل .. هذا حل غير كريم.. ثم هذا الذى تقول عنه سيكون أجنبيا عن زوجتى وبناتى، ولا تضمن أصله وفصله.. فضلا عن المشكلات التى تحدث من جراء التبنى .. فإن لم يقدر له أن يكون من صلبى فعلى الأقل يكون شقيقا لبناتى.
-  يالك من مجنون.. هل تريد أن تطلق زوجتك لهذا السبب.. أم تريد أن تتزوج عليها..؟ افهم جيدا قبل أن تقدم على ارتكاب أية حماقة إن آخر تطورات العلم تثبت أن الرجل هو المسئول عن تحديد نوع الجنين.
-       أفهم ذلك جيدا .. وهذه هى المشكلة.
ثم مخاطبا نفسه بصوت عال:
"لو كان الحل بيدى لتصرفت .. ولكن."
-       ولكن ماذا..؟ أفصح..؟
-       حك ماهر أنفه وقال:
-       ليتنا فى الزمن الماضى.. كان الحل ميسورا جدا.
-       ماذا تقصد..؟
-       الاستبضاع.
-       الاستبضاع..؟
-  كان الرجل يقول لزوجته أريد ولدا من هذه القبيلة فهى تحمل صفات الفروسية، والنجابة، وكرم الأصل... إلى آخره.
أطرق قليلا وكأنه يكلم نفسه:
"كانوا يملكون الحكمة."
انزعج سمير عند سماع الكلمة:
-       يا سلام.. الحكمة..!!
-       لا تندهش هكذا.. هذا كان فى الجاهلية .
-  لا أندهش مما كان.. ولكن من اعجابك أنت به.. على كل حال أرجو أن تقف عند حد الاعجاب وإلا رجمك المجتمع.
-       عند المجتمع ما يكفيه.
-  تعثرت قدم سمير فتوقف ودارت عيناه فى الأفق بحثا عن فضاء يصب فيه تساؤلاته واستنكاره:
-  " ترى هل شعر هذا الرجل بتصرف زوجته معى.. أهو يؤنبنى باسلوب غير مباشر أم تراه يحرضنى علي التجاوب معها.. أم أنه جن جنونا من أجل الولد."
قطع تفكيره صوت ماهر:
-       لماذا توقفت..؟
-       أفكر فى كلامك الغريب.. يبدو لى أنك جننت أو أصابك الخرف.
-       لا هذا ولا ذاك.. أنا أحكى لك عن واقع كان فى الماضى.
-       لكنه واقع خطأ.. وصعب للغاية.. وأنت تصفه بالحكمة..!
-       لم يجد ماهر بدا من الصراحة فوقف فى مواجهته وقال:
-  للضرورة يا صديقى أحكام.. تعال نحسبها بالعقل.. ماذا ترى فى مثل حالتى.. فهل الأفضل أن أتبنى طفلا مجهول النسب أم تأتى لى زوجتى بطفل يكون ابنها وأخو البنات وابنى بالفراش، وابنى بالرضاعة أيضا.. ألا تعلم ذلك.
-       أتحرض زوجتك على...
-       لكن ليس أى أحد..
نفد صبر سمير فخرج عن شعوره:
-       ماذا تريد بالضبط.. تأكد أننى لم أرتكب إثما وليس من طبعى خيانة أصدقائى
قاطعه:
-       أنت مثل القرع.
-       ماذا تقصد..؟
-       ألم تعترف بأنه كلما صادفتك كأسا شربتها.. أليس فى كؤسك هذه آثام..؟!
تلجلج:
-       ولكن الصداقة لها حقوق:
-       لا لكن، ولا شيء.. نحن ندردش يا رجل.. لا تشغل بالك.
فترة الصمت كانت ضوضاء فى نفس سمير.. تذكر كيف كان هذا الصديق يدعوه إلى شقته ويجد سببا يترك لأجله البيت، قائلا له فى كل مرة :
- "لبيت بيتك"
وكيف كانت زوجته تحرضه على الاقتراب.. ولما يبتعد تقول له :
-       لن يأتى الآن.. ألم يقل لك أنت فى بيتك.
وضحت الصورة إذا .. اكتملت تفاصيلها.. شعر أنه فى فخ لا يدرى كيفية الفكاك منه.. وعجز ذهنه عن التفكير إلى حين.
فى اليوم التالى عرف ماهر أن صديقه ترك المنزل مع بداية الصباح ولم يترك عنوانه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق