الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

لحظة تسليم


لحظة تسليم

الدموع تحجز الرؤية أمام عينيها.. توجع صوتها يقلق المرضى وزوارهم
فيتبادلون الالتفات إليها ومواستها وطمأنتها على ابنتها الغائبة عن .. تفطر قلب أمها.
-       صبرها يارب.
دعوة صادقة من مريضة السرير المجاور.
ترك الطبيب المريض الذى عليه الدور وتخطى ثلاثة آخرين وتوجه إليها:
-       حاضر يا سيدتى أكشف عليها ثانى وثالث.. المهم أن تُهدئى نفسك.
لم يسعفها صبر، ولم يعاجله هدوء، ولم تجف دموعها، ولم يكف لسانها عن الندب على البنت الحلوة طريحة الفراش ذات السنوات العشر، والتى لا تعرف سببا لرقدتها هذه:
-  جاءت من المدرسة ساخنة "ومفرفرة" رفضت الغدا ونامت، ولكن السخونة زادت.. سعلت، ورجعت.. والله ما تأخرت لحظة.. جريت بها على مستشفى الغلابة والمنكسرين .. ليس لى غير البنت، والولد .. الولد لايزال يرضع نسيته عند الجيران.. أى والله نسيته.. وجريت بالبنت.. الأب مات وشقيانه لكى آربى العيال.. والبنت هادية، ونادية، ومطيعة، وتحب المدرسة.. قلت ماذا فيها!! تأخذ شهادة تنفعها.. هى يدى ورجلى.. (أروح فين، وآجى منين يارب..) .. شوفوا لى حل يا ناس.. البنت لا تعرفنى وعنيها مغربة.. بقى لنا ثلاثة أيام على هذه الحال.
رد الطبيب بضيق:
-  يا ست.. حفظنا الحكايا كلها.. من فضلك ارحمى الناس، المرضى لا ذنب لهم فى مأساتك.
-       ستشفى يا دكتور..؟
-       بأمر الله .
تقدمت منها إحدى الزائرات تربت على كتفها :
-  بدلا من البكاء والنواح سرحى للبنت شعرها وغيرى ملابسها، وامسحى وجهها بالماء، ربما تفيق، وأنت أيضا تفيقين من البكاء الذى لا يقدم ولا يؤخر.
مسحت المرأة دموعها وهى تهز رأسها بالايجاب.. وانشغلت بالمهام النى كلفتها بها السيدة.
أقبلت عليها الممرضة مبتسمة، ناولتها فص برتقال وهى تقول:
-       هكذا يكون العقل، روقى ربنا يرضى عليك.
رفضت الفص وقالت:
-       لا يمكن أروق ولا أعرف أبلع أى شيء وبنتى "مملمة" هكذا.
المشط يرفض بشدة الخوض فى شعر البنت إلى أخره، تعثر عدة مرات حتى خطا أول خطوة ومعها فقد أول سنة من أسنانه.. نصحتها إحداهن أن تقص شعر البنت حتى يسهل تسريحه.. شهقت:
-       أقصه.. !!
ومضت فى عملها بهدوء وصبر.. تأخذ خصلة خصلة من الشعر وتمشطها على حدة بدربة وهوادة وتمصمص شفتيها:
-  أقص شعر البنت..!! فتل الحريرهذا..!! والذى كانت تنطره وراء ظهرها "أمواج أمواج" مثل الشلال، أو تلمه ذيل حصان وتبين الحلق الذهب، وساعات تعمله ضفيرة أو ضفيرتين.
انتهت من الشعر.. تتابعها العيون وهى تذهب وتجيء سريعا بالماء.. تمسح وجه البنت وتجففه، ثم تمسحه مرة أخرى وتجففه حتى صار نظيفا لامعا.. أعجب الأم نطقت:
-  زينة البنات والله يا بنتى.. شاهدين يا ناس على جمالها.. شايفين الحلق منور وجهها، اشتريته لها من لحم الحى، لما قالت لى:
-  يامه نفسى فى حلق ذهب مثل زميلاتى، ساعتها حسيت إنها كبرت قدام عنية وبقت عروس، خلعت من أذنها الحلق الفالصو وحلفت ما تلبس غير الذهب.
بعت الحلة النحاس، ومن يومها وهى كما ترون احلوت فى عيني أكثر، وكأن الحلق اشترك مع خراط البنات فى  انضاجها، ورد خديها وسبل عينيها وعلمها تتعاجب به.
هزت رأسها فى حسرة.
-       اتحسدتِ يا ناس أم ماذا.
-       ربنا يحفظها ويقومها لك بالسلامة.
ردد باقى الزوار.. آآآآمـــــين.
ذهبت وعادت سريعا بمقص فى يدها، وأخذت فى قص أظافر البنت، وهى تصف جمال يديها وتتغزل فى استدارة أصابعها.. ثم جاء دور تغيير ملابسها.. نادت الممرضة:
-       امسكى معى الله يسترك لما أغير هندامها.
-       حاضر يا ستى.. من عنية.
اعتدلت البنت مستسلمة بين الأيدى الأربعة، وأخذت الأم فى خلع ثوبها، وألبستها غيره ثم حملتها على كتفها وهى تتحسر:
-       يا حبيبتى بقيت خف الريشة.
ثم توجهت إلى الممرضة وبلهجة آمرة:
-       غيرى فرش السرير.
ضحكت الممرضة وقالت:
-       حاضر يا ستى .. نحن فى الخدمة.
انتهت من تغيير الملاءة وتقدمت تساعد الأم فى إعادة البنت إلى مكانها وهما تبسملان، وشفاة وقلوب الزوار والمرضى تدعو لها بالشفاء، ولكن البنت ثقلت على الأيدى فسبقتها، واندلقت على السرير.
صرخت الأم صرخة خلعت قلوب الموجودين وجاءت بالطبيب من الغرفة المجاورة.. كشف على البنت و.. غطى وجهها.
زاد صراخ الأم.
-       أبدا .. أبدا .. غير ممكن.
فشلت الممرضة فى جذب الأم وإخراجها من الغرفة، تمسكت بعمود السرير تصيح وتصرخ:
-       أموت مع بنتى.. أموت مع بنتى.
قال الطبيب:
-       اتركيها.. ونادى:
-       التروللى بسرعة.
دخل ثلاثة أشداء يجرون عربة لنقل البنت خارج الغرفة.
جرت الأم هنا وهناك تضرب رأسها فى الحائط:
-       بنتى .. بنتى.. لا تأخذوا بنتى.. لا تأخذوا بنتى.
واندفعت تتشبث بالعربة وتجرى وراءها مذعورة.. تغلب عليها الرجال، أمسك بها أحدهم، واندفع الرجلان بالعربة إلى آخر الممر.
أدركت الأم أنه لا رجعة.. جلست على الأرض.. مسحت دموعها وقالت بانكسار:
- هاتوا لى الحلق من "ودنها" !!
.............................
  أكتوبر/26أبريل1998

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق