دعوت الله
- أنا يا سيدي القاضي علي خدي شامة.
هاصت المحكمة .. ارتفعت الهمهمة ، وتناثرت نظرات الدهشة
والفضول..
لكن السيدة أكملت:
- وهذه الشامة نمت فوق خدي
بعدما كبرت.. فهي هنا منذ عدة سنوات فقط.. لا العمر كله.. والآن علي جانب من ذقني
تنمو أخري.
دق القاضي فوق المنصة ليوقف سيل الهمهمات والتعليقات
وقال :
- وهل لذلك صلة بالقضية..؟
أجابت :
- بالطبع يا حضرة القاضي.
- وما نوع الصلة..؟!
- دعائي المستجاب.. في طفولتي كنت ألعب
مع فتاة من عمري، مزين وجهها بشامتين.. واحدة شامخة فوق خدها، والأخرى تبزغ مختالة
علي جانب من ذقنها.
- اختصري من فضلك.
- كان منظرهما يخلب لبي في طفولتي
المبكرة.. فأقبلهما وأمسح وجهي بوجهها لتنتقل إحداهما إلي خدي بينما صديقتي
الصغيرة تضحك وتقول لي:
- قولي يا رب.
- قصتك مشوقة ولكنها تبعدنا عن
موضوع القضية.
لم تلتفت السيدة لكلام القاضي واسترسلت:
- من يومها وأنا أقول يا رب، وتصادف في
الوقت نفسه أن كانت تزور أمي سيدة مسكينة تطلب المساعدة .. فسألت أمي :
- ماذا تريد هذه المرأة..؟
قالت:
- تطلب
صدقة
التفت إلي المرأة وقلت:
- أنت تطلبين حسنة وأنا أطلب
"حسنتين"
- قالت لي هي الأخرى:
- قولي يا رب.
نظر القاضي فوجد الحضور يصغون باهتمام شديد فقال:
- ليكن.. سنظل نسمع حكايتك الغريبة لعلها
تقودنا إلي مفتاح القضية.
قالت مطمئنة:
- انزويت في ركن قصي في بيتي وتوجهت إلي الله
بمشاعري ودعوته:
" يا رب
أريد "حسنتين" واحدة هنا وواحدة هنا.. ولن آكل ، ولن ألعب مع صديقتي إلا
بعد أن تجعل لي "حسنتين" مثلها... "
وكنت كلما انتهيت من دعائي أسرع إلي المرآة لعلي أري
الشامة قد لاحت.. فلا أجد إلا أنفا طويلا وشفة غليظة، وذقنا ملتويا.. وأسمع أمي
تشكو لجارتها من "طرطأة" أذني
وفرد شراعهما علي جانبي وجهي النحيف جدا.
فتشير عليها الجارة الطيبة بأن تلف رأسي بمنديل يهبط فوق
أذني وتربطهما جيدا حتى تميلا للخلف.
نفد صبر القاضي دق علي المنصة.. ودق.. وقال بضيق:
- كفي أرجوك.. كفي عن هذا
الهراء.. طلبت تنحي المحامي والتحدث بنفسك. فلم نسمع إلا سفسطة..!!
قاطعته صارخة :
- وماذا يعرف المحامي عما لقيت في حياتي.. أم تريدون محاكمة بدون
دفاع..؟!
من أبسط حقوقي أن أتكلم .. أزيح عن صدري أثقاله.
- لكننا بصدد قضية بعينها.. لقد ضبطوك
تحاولين..
قاطعته:
- وهل يأتي أي فعل من فراغ.
- ماذا تقصدين..؟!
- لكل فعل سبب وقد تكون الأسباب قد
تراكمت فوق بعضها لسنوات وسنوات، وفي كل سنة يوما بعد يوم، وفي كل يوم ساعة بعد
ساعة، ودقيقة بعد دقيقة.
- زفر القاضي بضيق:
- يبدو أنه لا فكاك لنا اليوم .. استمري.
شخصت عينا السيدة إلي الميزان المعلق فوق رأس القاضي,,
وقالت:
- هل
تعرف تلك المرأة التي تمسك بالميزان..؟
قال بضجر واستخفاف:
- لا.. أتعرفينها أنت..؟!!
- نعم.. إنها أنا.. ألا تعرف لماذا وضعوا
هذه العصابة فوق عيني..؟
باستهانة أكثر.
- لماذا..؟!
- سألت أبي هذا
السؤال من زمن فقال:
- معصوبة العينين
حتى لا ترجح كفة علي أخري.. فتزن بالعدل.
قال القاضي :
- هذا صحيح ، والدك علي صواب.
- ولكن هذا الكلام لم يقنعني.. فقلت له:
- بل معصوبة العينين حتى يثقل الظلم ولا
تراه.
صفق الحضور.. فأكملت بثقة:
- هل تعينون المرأة في منصب القضاء..؟
- رد القاضي :
- لا.. فالمرأة لا تزن الأمور جيدا.
- إذن فلماذا تمسك بالميزان.. تصلح
وزانة فقط..!! أم هي نية مبيتة..؟
- أية نية..؟!
- نية الشماعة.. تأمل الصورة جيدا.. إنها
لا تمسك بالميزان بل هو متعلق بها.. فهي الشماعة التي يقع علي عاتقها عبء الظلم.
- مازلت لا أفهم.
- النية ضد المرأة دائما.. هي تمسك
بالميزان وليست بالقاضي.. فإذا رجح الظلم فهي التي تكيل .. وإذا ساد العدل فهي
معصوبة العينين، فلا فضل لها في هذا العدل، ولا حتى متعة النظر إليه.
ضجت المحكمة بالتصفيق.. دق القاضي عدة مرات آمرا بالتزام
الصمت.. وقال بحدة:
- جنحت بنا من موضوع لموضوع.. من شامتك
إلي والدتك إلي والدك، فالميزان .. ثم ماذا بعد..؟
- أبي لم يعجبه
منطقي.. رغم أنه سماه بالمنطق، فكان يصرخ في:
- طوال اليوم منطق
وفلسفة.. ألا تكفين قليلا .. البنت لا يحق لها أن تتفلسف بهذه الطريقة.
أطرقت السيدة ثم قالت:
- ولكنكم لن تطلبوا مني أن أكف.. يجب ألا
تطلبوا ذلك.
قال القاضي:
- ولكننا نطلب منك كلاما يفيد الموقف،
ماذا في كل ما سمعنا يمس القضية..؟
- كله .. كل ما تفوهت به في صلب القضية..
إحساسي بالعجز بسبب العصابة فوق عيني وأنا أمسك بناصية الميزان.. ميزان الحياة..
شعوري بالنقص أمام المرآة ، أنوثتي قيد، وصوت أمي نادبة حظها فابنتها الوحيدة لن
تتزوج لدمامتها، منطقي قيد.. من علم أبي أنه لا يحق للأنثى أن تتفلسف..؟
تنهدت.
- ووسط كل هذا الضباب بدأت بارقة الأمل تلوح لي
.. رأيتها تبزغ في استقامة نادرة تنفر بكبرياء فوق خدي.. لقد ظهرت الشامة.
قال القاضي بتهكم:
- إذن نهنئك..!
- يجب أن تكون التهنئة مضاعفة.. فقد تزامن ظهور
الشامة مع قدومه.
- من..؟!!
- خراط البنات.
ضحك الجميع فلم تهتم وأكملت :
- امتلأ وجهي قليلا فحسن من وضع الحواس
الثلاث.. أنفي ، وفمي ، وأذني.. واعتدل قوامي فحسن من حواس أمي نحوي.. سمعتها تقول
لجارتنا:
- " البنت كبرت وادورت"
- فاتجهت إلي السماء وقلت يا رب،
وقر في نفسي أن دعائي مستجاب .. فدعوت الله.
- بماذا دعوته هذه المرة ..؟
- أن يرزقني زوجا .
- ذلك الذي حاولت قتله..؟
- لا تكون المحاولة لقتله.. وإنما لإنقاذه.
- كيف ..؟!!
- قتل الزوج لا يحتاج محاولة .. فهو يأكل
من يدها.. ألا يعلم أن غذاءه في يدها، وأن مماته في يدها.. شفاءه في يدها ، وشقاءه
في يدها .. فلماذا لا تعلمونه هذا الدرس..؟
صاح القاضي:
- ماذا..؟! نعلمه يحذرها..!!
- تعلمونه يقدرها
- وماذا حدث..؟
- لم يقدرني.. أضاف إلي قيودي قيدا أشد
قسوة.. ألبسني قميصا من الجبس تصلب جسدي داخله، وامتد التصلب إلي نفسي وروحي
وخواطري.. الإحساس بالعجز هذه المرة كان مدمرا.
- وماذا فعلت..؟
- طالبت بما كنت أظنه حقا لي.. طالبت
بكسر القيد.. أتنفس نسيم الحرية.
- فماذا فعل..؟
- لوح لي بالورقة التي وقعناها معا، فطلبت أن
نمزقها معا.. اصطدمت بأمر حقيقة في الوجود.. له الحق وحده في أن يمزقها أو لا
يمزقها..!!
تصنع القاضي الهدوء وقال:
- فحاولت قتله..!
- لا بل حاولت إنقاذه.
- لقد ضبطناك تحاو............
قاطعته:
- وجلست بجواره أدعو الله أن تأتوا سريعا
وتنقذوه من يدي.. وقد كان..!
ألم أقل بأنني مستجابة الدعاء.
زفر القاضي ضيقه وقال متحفزا:
- يا سيدتي .. لولا البلاغ
من مجهول لكنت أنهيت حياته..!!
- سيدي ..
وأنا .. ذلك المجهول
..........................
حواء/27سبتمبر1997
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق