الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

انطلاقة


انطلاقة

- أين بابا ..؟
- لست أدري.
- ألم يقل أنه سيتأخر..؟
- نعم.. لم يقل.
- ربما سافر البلد..؟
- ربما .
- ولم يتصل
- لا.
- ربما غضبان..؟
- ربما.
- تشاجرتما في الصباح..؟
- كما يحدث أحيانا.
- ونزل إلي عمله غاضبا..؟
- كما يذهب في بعض الأيام.
- لكن الساعة اقتربت من الحادية عشرة مساء فأين ذهب..؟!
- ..................................
الأولاد واحد في حجرته يذاكر، الثاني أمام الكمبيوتر ومعه صديقه ، الثالث يجلس أمامي يستجوبني.. نهضت لأوقف تساؤلاته.
- سأذهب للنوم.. بعدما ينزل صديق شقيقك أغلق الباب بالترباس.
- لماذا بالترباس..؟
- أمان.
- وأبي كيف يدخل..؟
- يدق الجرس ونفتح له.

تذكرت أننا لا نغلق الباب بالترباس إلا عليه.. أما إذا تأخر بالخارج فلا نستعمل وسيلة الأمان المسماة بالترباس حتى يتمكن من الدخول بمفتاحه متى يعود، ومهما تأخر نحن نيام والباب بلا أمان، ثم يدخل ويغلق خلفه بالترباس.
ابتسمت للخاطر:
(كأن الترباس لم يخترع إلا للمحافظة علي رب الأسرة..!!)
تذكرت يوما قال للولد اقفل الباب بالترباس.
فأسرعت متهكمة :
- نعم بالترباس لأن أبوك معنا..!!
كررت جملتي علي الولد.
- لا تنس الترباس.
تمددت في فراشي محملقة في سماء الحجرة، أول سؤال خطر علي بالي:
لماذا طلبت إغلاق الباب بالترباس هذه المرة وأصررت عليه..؟
هل أخشي شيئا.. شجار هذا الصباح كان مختلفا.. كانت الحدة بادية علي كلينا.. صرخت في وجهه:
- أنت لست رجلا.. لماذا لا تطلقني رغم كراهيتي لك.
دائما يسمع نعتي له بعدم الرجولة، ورغبتي في الطلاق ولا يحرك ساكنا، ويذهب ويعود وكأن شيئا لم يكن.. له أعصاب يحسد عليها.. فهي باردة أمام عظائم الأمور، ثائرة عند التوافه.
ثم هو إذا ما فكر بالذهاب إلي البلد لأمر ما عادة  يتصل ليخبر بذلك.. ماذا جد اليوم..؟
أيكون غضب هذه المرة لكرامته..؟ أيكون قد قرر أن يثأر لنفسه..؟ وبأي أسلوب سيكون الثأر..؟ هل سيطلقني..؟ أم.. سيقتلني..؟
لكنه لا يجرؤ علي القتل، فهو لا يجرؤ علي الطلاق فكيف بالقتل..؟!
ربما هناك من يشجعه علي ذلك،صديقه الذي هو عنده الآن .. فلابد أنه عند أحد أصدقائه، ولابد أن هذا الصديق يرسم له الخطة المناسبة:
- "معك مفتاح الشقة..؟
-.......................
-  جميل .. نذهب بعد أن ينام الجميع.
-  الأولاد يسهرون لكنها تنام مبكرة.
- إذن ننتظر حتى ينام الأولاد.. سأنتظرك بالخارج وسأشهد عند اللزوم بأنك لم تتركني لحظة.. نحن لا نكذب فأنت بالفعل لن تتركني، ولن أتركك حتى أخلصك من هذا الغم الذي يجسم علي قلبك المسمي زوجتك.. لا تخشي البصمات فمن الطبيعي أن تكون بصماتك في كل ركن بالشقة.. العملية لن تستغرق أكثر من دقيقة واحدة فهي نائمة، مستسلمة لك تماما، وحتى لو فتحت عينيها ورأتك فكيف تخبر عنك بعد أن تموت، تشجع وضع الوسادة علي وجهها واضغط عليها بكل قوتك، ارتكز بركبتيك علي جسدها واستمر في الضغط حتى تخمد أنفاسها ويبرد جسدها الذي طالما أشعلك وعذبك بالحرمان."

ولابد أن الفكرة قد اختمرت في رأسه، ربما يجعله يشرب شيئا يتقوي به علي هذه الفعلة، ربما يحومان الآن أسفل العمارة يتربصان حتى  ينطفئ النور.

ابتسمت لخيالي الخصب، درت بعيني متأملة فيما حولي، ثم أغمضت جفني.
أفقت لأجد أني معلقة في فضاء الحجرة أنظر لكل الأشياء التي رأيتها من قبل، كلها كما هي في مكانها، الجديد الذي أراه هو جسدي الممدد فوق السرير، مخنوقا بالضغط القوي علي العنق، انفلت من وطأة الضغط.. درت في سماء الغرفة أنظر إلي الجسد الذي احتواني كل هذا العمر هو الآن بلا حركة ولا رمشة ولا نفس.
وقفت أنتظر أن يتنفس الصبح .. بعد قليل يصحو الجميع ويكتشفون الحدث المروع، قررت ألا أغادر حتى يصلوا إلي الجاني.. ها هو باب غرفتي يدق.. ها هو صوت الولد ينادي:
ماما .. تأخرنا علي المدرسة.. لماذا أنت نائمة حتى الآن..؟
وها هو لم يسمع ردا.. وها هو يتقدم ويهز الجسد.. يشك في الأمر.. يندفع فزعا.. يخرج من الغرفة.. يوقظ النيام.. يصرخ فيهم:
الحقوا ماما .. ماما لا ترد.
الجميع يتدافعون نحو الغرفة .. يهزون الجسد.. يصرخون:
- ماما .. ماما.
- ماذا حدث..؟
- هل ماتت ماما..؟
- ما هذه الجروح التي فوق العنق..؟
- وما هذه الفوضى بالغرفة..؟
- هل دخل أحدهم و.. خنق أمي..؟

" ها هم يتدرجون حتى يكتشفوا الحقيقة.. الولد الكبير يتصل بمن .. أكيد بالبوليس، لابد أنهم سيسألون عن أبيهم، وسيعرفون أنه تغيب منذ الأمس، أكيد الولد سيقول لهم أنني طلبت منه إغلاق الباب بالترباس، لكنه نسي، وفي هذه الحالة سيخمن البوليس بأن وراء هذا الطلب تهديدا مسبقا بالقتل، ولن يتركوا هذا الخيط حتى يصلوا إلي الفاعل.

-   ماذا أسمع ؟؟! الولد لا يطلب البوليس، إنه يطلب خاله..!
-   خالي ماما ماتت.
-   أعاد الاتصال.
-  عمي.. أين بابا..؟ ماما ماتت.

" سيحضر خال الأولاد وعمهم.. الخال ستلفت نظره الفوضى بالغرفة، والجروح بالرقبة، ويصر علي استدعاء البوليس.. العم لا يلقي بالا لأي شيء يكون من جرائه وضع أخيه موضع اتهام، هذا الذي اختفي منذ الأمس ولم يقل إلي أين، وربما لم يكن عند صديقه طوال الوقت كما توقعت بل عند أخيه هذا، وكل التدبير هو من تلافيف عقل أخيه، فهو الصدر الحنون الذي يشكو له مشاجراتنا، وهو يتعاطف معه بالفعل، أليس رجلا مثله، خاصة لو كانت المشاجرات من أجل مصروف البيت، هو وشقيقه صديقان للبخل، يقصران في حق بيتيهما ويأنفان من توجيه اللوم.!!

كم قصر هذا الرجل في حقي وحق أولاده، وطالما يراني متحملة وساكتة فأنا أفضل امرأة في الدنيا خلقا، وإذا فاض بي الكيل ونطقت معبرة عن هذا الحظ العسر أفاجأ به يلاحقني بلسان سريع الطلقات ينعتني بأردأ الصفات وكأنني أسمع صفات واحدة غيري تحمل اسمي، وهو قادر علي قلب الحقائق وجعلي أكره هذه الشخصية التي يصفها لي.. فلا أجد ما أقوله سوي:

-  ما دمت أنا بهذه البشاعة! فلماذا لا تطلقني، ومكافأة لك من أجل العذاب الذي تحملته معي سوف أتنازل لك عن كل حقوقي، وأملاكي، وأولادي.
فيسقط في يده.. فأنا البقرة الحلوب فإلي أين أذهب بكل هذا الدسم، وهو يعتقد أنه الذي سمنني استعدادا لذبحي فيرد:

-  لا.. لن أطلقك حتى تموتي.
عندها ألقي بالكلمة الخطيرة ربما تستفزه علي النطق بما أريد:
-  أنت لست رجلا.
ولا حتى هذه تنتزع منه حريتي.

يا..ا..ا..ه.. أخيرا تخلصت منه ولكن علي طريقته.. لا يهم إنه الخلاص علي كل حال.. أوف لهذا العذاب الممتد، وتبا لهذه الإجراءات التي تتم أمامي.. إنني منزعجة مما يحدث.. ما هذا البطء حتى أشيع من هذا الجو الخانق.. أستطيع أن أغادر دون احتياج لإذن بالخروج..
أما الجسد فليوسدوه أي مكان شاءوا كفي صراخا يا أحبائي.. كفي نواحا إنني سعيدة بالنتيجة لاتتهموا أحدا فلا أشعر برغبة في الانتقام، لا أحمل غلا لأحد قد منحت الحرية لمن أعطاني إياها ، إنني الآن حرة.. وها هي الأرواح المنطلقة مثلي تدق الباب .. جاءت لتأخذني إلي الفضاء الرحب، أفسحوا لروحي كي تغادر.. الأرواح تنادي أسمع دقهن المتواصل علي الباب وحثهن لي بسرعة الخروج.. الخروج من ضيق المكان إلي الفضاء الرحب..  تنفس نسيم الحرية والانطلاق.. إنني ذاهبة إليهن.. طائرة معهن، دقهن الآن يزداد.. يزداد.. إني قادمة.. قادمة.. سأفتح حالا.. سأفتح.
- لماذا تغلقين الباب بالترباس..؟
-   أنت ..! جئت أخيرا.!.. حمد الله علي السلامة.
................................
حواء/20يناير2001

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق