قصة طالوت وجالوت
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(246)وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(247)
الملأ هي من ملأ يعني ازدحم الإناء، ولم يعد فيه مكان يتحمل زائداً. وأن الظرف قد شغل بالمظروف شغلا لم يعد يتسع لسواه.
وكلمة "ملأ" تطلق على أشراف القوم كأنهم هم الذين يملأون حياة الوجود حولهم حين
يجلسون للتشاور.
والمعني ألم يأتك خبر وجوه القوم وأشرافهم من بعد موسى عليه السلام سواء في عصر "يوشع" أو "حزقيل أو شمويل" أو أي واحد لا يعنينا ذلك لأن القرآن لا يذكر في أي عهد كانوا، المهم أنهم كانوا بعد موسى عليه السلام.
لقد اجتمع أشراف بني إسرائيل للتشاور ثم ذهبوا إلى النبي الذي كان معاصرا لهم وقالوا
له: ابعث لنا ملكا.
نفهم من ذلك أن النبوة كانت تشرف على نفاذ الأعمال ولا تباشر الأعمال، وأما الملك فهو الذي يباشر الأعمال.
ولو كانت النبوة تباشر أعمالا
لما طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا.
ولذلك طلبوا من النبي أن يأتي
بملك يعيد تصريف الأمور فتكون النبوة مرجعا
للحق، ولا تكون موطنا للوم في أي شيء.
الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه
قال لنبي بني إسرائيل: أنتم الذين
طلبتم القتال وأنتم أشراف القوم ـ وأتيتم بالعلة
الموجبة للقتال وهي أنكم أخرجتم من دياركم، وبلغ بكم الهوان، ومع ذلك قال لهم
النبي:
"هل عسيتم إن كتب عليكم
القتال ألا تقاتلوا" لقد أوضح لهم
نبيهم الشرط وقال: إنني أخاف أن آتي لكم بملك كي تقاتلوا في سبيل الله، وبعد ذلك يفرض الله عليكم القتال، وعندما نأتي للأمر
الواقع لا نجد لكم عزما على القتال وتتخاذلون.
لكنهم قالوا: "وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا" ..
انظر إلى الدقة في قولهم:
"في سبيل الله" وتعليق ذلك السبيل
على أنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم! لقد أرادوا أن يقلبوا المسألة وأن يقولوا: إن القتال في سبيل الله بعد أن عضتهم التجربة فيما يحبون من
الديار والأبناء، إذن فالله هو الملجأ
في كل أمر، وقبل سبحانه منهم قولهم، واعتبر قتالهم في
سبيله.
وكان إخراجهم من ديارهم أمرا
معقولا، لكن كيف تخرجون من أبنائهم؟ ربما كانوا
قد تركوا أبناءهم للعدو، وربما أخذهم العدو أسرى. لكنهم هم الذين أخرجوا من ديارهم، وينطبق عليهم في علاقتهم بالأبناء
قول الشاعر:
إذا تـرحـلـت عـن قـوم وقـد قـدروا
ألا تـفـارقـهم فالراحـلـون همـو
وانظر إلى التمحيص، إنهم ملأ من بني إسرائيل وذهبوا إلى نبي وقالوا له: ابعث لنا ملكا حتى يجعلوها حربا مشروعة ليقاتلوا في سبيل الله، وقال لهم النبي ما قال وردوا عليه هم: "وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله" يعني وكيف لا نقاتل في سبيل الله؟ وجاء لهم الأمر بالقتال في قوله تعالى: "فلما كتب عليهم القتال تولوا"
إن قوله:
"كتب" لأنهم هم الذي طلبوا تشريع القتال فجعلهم الله داخلين في العقد
فجاء التعبير بـ"كُتب" ولم
يأت بـ"كَتبَ"، ومع ذلك تولوا أي أعرضوا عن القتال.
لقد كان لنبيهم حق في أن يتشكك في قدرتهم على القتال، ويقول لهم:
"هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا". ولكن هل أعرضوا جميعا عن القتال؟
لا.. لقد كان منهم من لم يعرض عن التكليف
بالقتال لكنهم قلة، وهذا تمهيد مطلوب، حتى إذا انحسرت
الجمهرة، وانفض الجميع من حولك إياك أن تقول:
"إني قليل"؛
لأن المقاييس ليست بكثرة الجمع،
ولكن بنصرة الحق سبحانه وتعالى.
وقد يكون عدوك كثيرا لكن ليس له رصيد من ألوهية عالية، وقد تكون في قلة من
العدد، لكن لك رصيد من ألوهية عالية، وهذا ما
يريد الحق أن يلفتنا إليه بقوله:
كلمة "إلا قليلا" جاءت
لتخدم قضية، أي أن الغلبة تأتي بإذن الله، إذن فالشيء المرئي
واحد، لكن وجهة نظر الرائين فيه تختلف على قدر رصيدهم الإيماني. أنت ترى زهرة جميلة، والرؤية قدر مشترك عند الجميع، ورآها غيرك، أعجبتك أنت
وحافظت عليها وتركتها زينة لك ولغيرك، بينما
رآها إنسان آخر فقطفها ولم يبال ملك من هي،
وهكذا تعرف أن
العمل النزوعي يختلف من شخص لآخر، فالعدو قد يكون كثيراً أمامنا ونحن قلة، وكلنا رأى العدو كثيراً ورأى نفسه قليلاً، لكن المواجيد تختلف.
أنا سأحسب نفسي ومعي ربي، وغيري قال: لا نقدر عليهم؛ لأنه أخرج ربه من الحساب.
إذن فالتولي ظلم للنفس؛ لأن الظلم في أبسط معانيه أن تنقل الحق لغير صاحبه، وأنت أخرجت من ديارك وظللت على هذا الحال، إذن فقد ظلمت نفسك، وظلمت أولادك الذين خرجوا منك، وفوق ذلك كله ظلمت قضيتك الدينية.
إذن فالجماعة الذين تولوا كانوا
ظالمين لأنفسهم ولأهليهم ولمجتمعهم وللقضية العقدية.
وقوله الحق:
"والله عليم
بالظالمين" هو إشارة على أن الله
مطلع على هؤلاء الذين تخاذلوا سرا، وأرادوا أن يقتلوا الروح المعنوية للناس وهم الذين يطلق عليهم في هذا العصر
"الطابور الخامس"
الذين يفتتون الروح المعنوية دون أن يراهم أحد ولكن الله
يعرفهم.
لقد طلب هؤلاء القوم من نبيهم أن يبعث لهم ملكا. وكان يكفي أن يختار نبيهم شخصا ويوليه الملك
عليهم.
لكن نبيهم أراد أن يغرس الاحترام
منهم في المبعوث كملك لهم. لقد قال لهم:
"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا
إنه يريد أن يطمئنهم على أن مسألة اختيار
طالوت كملك ليست منه؛ لأنه بشر مثلهم، وهو يريد أن ينحي قضيته البشرية عن هذا الموضوع، فماذا كان ردهم؟
"قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من
المال".
وهذه بداية التلكؤ واللجاجة ونقل الأمر إلى مسألة ليست من قضايا الدين.
إنهم يريدون الوجاهة والغنى. وكان يجب عليهم أن يأخذوا المسألة على أن الملك جاء لصالحهم، لأنهم هم الذين طلبوه ليقودهم في الحرب.
إذن فأمر اختيار الملك كان لهم ولصالحهم، فلماذا يتصورون أن الاختيار كان ضدهم وليس لمصلحتهم؟
شيء آخر نفهمه من قولهم: إن طالوت هذا لم يكن من الشخصيات المشار إليها؛ فمن العادة حين يحزب الأمر في جماعة من الجماعات أن تفكر فيمن يقود،
فعادة ما يكون هناك عدد من الشخصيات اللامعة
التي يدور التفكير حولها، وتظن الجماعة أنه من الممكن أن يقع
على واحد منهم الاختيار، وكان اختيار السماء لطالوت على عكس ما توقعت تلك الجماعة. لقد جاء طالوت من غمار القوم بدليل أنهم قالوا: "أنى
يكون له الملك" أي لم يؤت الملك من قبل.
ولقد كانوا ينتمون إلى نسلين:
نسل أخذ النبوة وهو نسل بنيامين،
ونسل أخذ الملوكية وهو نسل لاوي
بن يعقوب.
فلما قال لهم: "إن الله بعث
لكم طالوت ملكا"، بدأوا يبحثون عن صحيفة النسب الخاصة به فلم يجدوه منتميا لا لهذا ولا لذاك، وهذا يدلنا على أن الناس حين
يريدون وضعا من الأوضاع لا يريدون الرجل المناسب للموقف،
ولكن يريدون الرجل المناسب لنفوسهم.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يضع
قضية كل مؤمن وهي أنك حين تريد الاختيار فإياك
أن يغشك حسب أو نسب أو جاه، ولكن اختر الأصلح من أهل الخبرة لا من أهل الثقة. لقد تناسوا أن القضية التي طلبوها من نبيهم تحتاج إلى صفتين: رجل
جسيم ورجل عليم، والله اختار لهم طالوت رجلا جسيما
وعليما معا.
وعندما نتأمل سياق الآيات فإننا نجد أن الله قال لهم في البداية: "بعث لكم" حتى لا يحرج أحدا منهم في أن طالوت أفضل منه، ولكن عندما حدث لجاج قال لهم: "إن الله اصطفاه عليكم"
وهو بهذا القول يؤكد إنه لا يوجد فيكم من أهل البسطة والجسامة من يتمتع بصفة العلم. وكذلك لا
يوجد من أهل العلم فيكم من يتمتع بالبسطة
والجسامة .
وكان يجب أن يستقبلوا اصطفاء
الله طالوت للملك بالقبول والرضى فما بالك وقد
زاده بسطة في العلم والجسم؟
والبسطة في العلم والجسم هي المؤهلات التي تناسب المهمة التي أرادوا من أجلها ملكا لهم.
ولذلك يقول الحق: "والله
يؤتي ملكه من يشاء"
وكأن الحق يقول لهم: لا تظنوا
أنكم أنتم الذين ترشحون لنا الملك
المناسب، يكفيكم أنكم طلبتم أن أرسل لكم ملكا فاتركوني بمقاييسي
اختر الملك المناسب.
ويختم الحق الآية بقوله:
"والله واسع عليم" أي عنده لكل
مقام مقال، ولكل موقع رجل، وهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذه المهمة. ومن يصلح لتلك، لا عن ضيق أو قلة رجال، ولكن عن سعة وعلم.
لقد استقبلوا هذا الاختيار
الإلهي باللجاج، واللجاج نوع من العناد
ولا ينهيه إلا الأمر المشهدي المرئي الذي يلزم بالحجة،
لذلك كان لابد من مجيء معجزة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق