الخميس، 29 نوفمبر 2012

محـــــاورة: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


محـــــاورة
:
يجب أن اطلق هذه المرأة.. لابد.. لماذا أبقي عليها وما تسببه لي من ضيق وقلق يفوق ما تقدمه من خدمات هزيلة.. امرأة لا تسر العين.. بدينة.. مدكوكة وأنا تعجبني المرأة الرشيقة.
لا تأكل كما يأكل خلق الله، تبدأ بالمضغ ثم البلع.. بل تطوح اللقم بأصبع ماهرة، فتسقط في الهوة السحيقة المحفورة في وجهها، وكأنها خباز يلقي بقطع العجين إلى قلب اللهب.
رغم كرهي لهذا المشهد استمتع بمشاهدته من باب التسلية، فهو ابتكار لبناء الأجسام البدينة.
لست بخيلا أعد عليها اللقم.. ثم إنها تأكل يشهية وتزغر لي بعينين تملؤهما الثقة.. وتنطقان:
- من جيبي.
فهى صاحبة إيراد ضئيل يتيح لها بعض التجاوز ولي بعض التقصير.
أكاد أستلقي من الضحك وهي تقول:
- ميراث أبي.
لا أتصور أن لهذه العربة المصفحة أبا.
أما مشيتها، فتحرك في نفسك صفة الشهامة.. تراها فتسرع بنشر ذراعيك في الهواء لإيقاف هذا الصخب الصامت.. تترجرج مثل دلو مملوء بالماء إلى حافته، يحمله صبي لم يألف بعد حفظ توازنه.. يجب أن أوقف هذه المهزلة.
مادامت ذهبت إلى بيت أمها فلتبق هناك.. ماذا يضيرني.. الطعام.! يمكنني صنعه بنفسي.. ثم إنها تكثر من الملح في الطعام، وأنا أحبه أقل ملوحة.
ملابسي.! يمكنني غسلها وكيها أفضل منها.. فهي لا تدعك ياقات القمصان جيدا.. وهل تزوجت لأحصل على خادمة بدون أجر.؟!
من.؟! الأولاد.. آه.. كبروا.. ليسوا في حاجة إلي خدماتها الآن.. يمكنني مراعاة شئونهم البسيطة بنفسي.. هم قادرون على أكثرها.. الصغير لم يعد صغيرا.. عشر سنوات كاملة مع نضج عقلي ولباقة في الحديث:
- لماذا تغضب أمي وتذهب إلى بيت جدتي كثيرا.!
سؤال ذكي.. يا سلام على الولد.!.. أمك يا حبيبي لا تزال طفلة تحن إلى صدر أمها.. بالتأكيد سوف يقدر موقفي ويوافقني على طلاقها.. بل سيفرح بالمفاجأة.
لن أظلمها.. فهي أم أولادي.. على كل حال لها حقوق الزوجة كما أمر الدين.
المؤخر موجود.. النفقة مضاعفة.. أمتعها سنتين بدلا من واحدة.. مشكلة واحدة ستصادفني.. قيمة الذهب الذي باعته لتعوض خسارتي الأخيرة.. تدبر.!
هذه المشكلة سأتغلب عليها.. المهم أن تبقى هناك في حضن أمها.
جادت بالمال ولم تجد بالمشاعر.. كنت أقص عليها أسباب خلافي مع الشريك وتلوذ بالصمت.
- قولي أي شيء.
- أنت المخطيء
- أنا زوجك.. يجب أن تكوني في صفي دائما.
تنظر إليَّ شزرا.. تعتمد على ركبتيها وتمضي تترجرج.
أولادها.!.. تراهم كما يحلو لها.. حقها.. وأشترط عليها عدم التدخل في شئونهم، فهي تتمتع بقدر كبير من السلبية.
صوتها.!.. لا تقدر على خفضه.. في اعتقادي أن لنا عند الجيران ملفا بأخبارنا.. هذا غير معاهدة الصداقة بينهم وبين زوجتي العشرية، أهم نصوصها تبادل السلع الغذائية الخام والمصنعة.
- أرجوك يا زوجتي العزيزة.
- لا ترجوني.. الجيران لبعضهم.!
لم تزد.. لوت (بوذها) ولاكت أضراسها.. أستريح منها ومن جيرانها الذين ترغمني على استقبالهم في بيتي:
- يا حبيبتي.. كوني عملية.. تحسب المعارف اليوم بمقدار الربح والخسارة.. لا وقت لأحاديث الود والألفة.
تضحك في بلاهة واستخفاف.. وتمضي في تجهيزات الزيارة، ألا أملأ عينيها.. لن أضيع الفرصة كالفرص السابقة.
يالهذا الهدوء الجميل منذ أن غادرت البيت.!
الأولاد كل في ركنه.. عاكف على كتابه.. أتوقع لهم نتيجة أفضل في هذا الشهر, لكنني حائر في تفسير معنى نظراتهم.. أهي نظرات لوم أم امتنان.؟!
غدا يا صغاري تكبرون.. وتدركون كم أسديت لكم من جميل بإبعاد أمكم الحنون.. حنان الدببة.
قبل أن تخور قواي سأسارع بارتداء ملابسي.. مأذون الحي قريب من هنا.. ولن أستغرق وقتا.. التفتوا أنتم إلى مستقبلكم أيها الأعزاء.. اتركوا لي وحدي هذه المهمة الصعبة.. استودعكم الله مؤقتا.
- إلى أين يا أبي.؟
- ذاهب إلى.. إلى.. مصالحة أمكم.

قمقـم: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


قمقـم
:
في استكانة مرهفة تتشرب كلماتها:
- انظري.!.. هذه أنت.. قابعة في قاع الكوب.
- هذه أنا.؟!!
- نعم.. عمر طويل في قراءة الفنجان.
- إذن هذه أنا.. في قاع الكوب.. في قاع القمقم.
- فنجاني لا يخطيء.
- إلى أين تتجه نظراتي.؟!
- إلى المجهول.
- وماذا في المجهول.؟
- المجهول مجهول.
- (أقبع في قاع القمقم.. أنظر إلى المجهول.. المجهول مجهول.!)
- الدروب.. كثيرة الالتواء.
- وأدوات مقاومتي.
- الأكثر بياضا.
- السلاح الأبيض.!
- هذا ماترسمه بقايا البن في فنجانك.
- تقصدين القمقم.
- ما تسمينه القمقم.
- ألا يوجد من يحطم القمقم.؟
- قديما كان سعيد الحظ.
- أين هو الآن.؟
- في قمقم آخر.
- ياه.. توصلوا إليه.!!
- مع كثيرين غيره.
- (أقبع في قاع القمقم.. أنظر إلى المجهول.. دروبي ملتوية.. فارسي في قمقم آخر.!)
- وأنا.. ألم أمت بعد.؟
- مازلت تنبضين.
- الموتى ينبضون.!!
- القبر لا يضم إلا ميتا.
- القمقم لا يسكنه إلا ما.....
(مارد بسلاح أبيض.. ينظر في بلاهة إلى المجهول.!.. يتحين اللحظة.
بغير سلاح.!.. سلاحه الإرادة.
(أقبع في قاع القمقم.. أتحين اللحظة.. سلاحي الإرادة.!)
- وماذا أيضا.؟
- تصدأ الإرادة بالصبر الطويل.
- إذن هاته.
- ماذا.؟
- القمقم.
- القمقم.؟!
- أقصد الكوب.
- ماذا أنت فاعلة.؟
- أضرب الكوب في الحائط هكذا.. يتناثر زجاجه هكذا.. يخرج المارد هكذا.. قابضا على المستقبل.

في البساتين: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


في البساتين
:
الليل يخيم بجناحين ثقيلين.. الهدوء المميت يرسل قشعريرة.. تدب في جسد مدحت.. تسحقه.. يتلفت حواليه.. الجدران تخنقه.. فرغ لتوه من معالجة زوجته.. هاهي ذي طريحة أمامه إثر حبتين للمنوم.. وجهها البريء يحتفظ ببعض انزعاجه.. ما حدث ظهر اليوم كان كفيلا بأن يعبر الحائط الفاصل.
جلس مدحت قبالتها.. يحدق بعينين ألهبهما الذعر.. عبر ذهنه الجدار وكل الجدران.. راح يغرق مع معين الماضي.. القصة الآن حية بكل تفاصيلها.. قصة البحث عن شقة مدة ثلاث سنوات.. أوشكت المشكلة أن تفرق بينه بين خطيبته.. زوجته مع إيقاف التنفيذ.. في قمة يأسه جلس تحت يد حلاقه.. مستمتعا بعبث أصابعه، كان الرجل يضم فروة الرأس بكلتا يديه ويرسلها.. تفتق ذهنه بالتدليك الطبيعي.. استنكر الفكرة في أول الأمر.. عاد وتحمس لها.. انتشى في مقعده .. هتف:
- رائع.!
- يجرحك المقص.
استكان بأمر الحلاق.. تململه أنهى المهمة بسرعة.. قفز يشكره.. غادر المحل.. تسبقه خطواته إلى بيت عروسه.. لم يرفع يده عن الجرس.. فتح الباب.. اندفع داخلا:
- أين زوجتي.؟ منال.. منال.
- ماذا حدث.؟
- ارتدى ملابسك بسرعة.. مفاجأة لم تخطر على بال.. هيا.. هيا.
عند محطة الأتوبيس تشاغل بلحن يعزفه بفمه.
"هى دي هي فرحة الدنيا.. دق يا قلبي غني يا عنية"
دفعها داخل الأتوبيس قبل أن تتمكن من قراءة الجهة التي يقصدها.. البساتين.. تشاغل مدحت بالتحديق في السقف.. لم تستطع صبرا.. لكزته في ذراعه:
- إلى أين.؟
- البساتين.
- حدائق.. نتنزه بها.؟
- مساكن نزورها.. هناك يقطن أبي وأخي الأكبر.
- توفى والدك منذ زمن وكذلك أخوك.؟!
- هذا صحيح.. أسكناهما منزلا رائعا.. بناه والدي بنفسه لنفسه.. استبدل معاشه.. اقترض من المقربين.. ضيق علينا حتى يتمه، هو الآن يتمتع بأجمل وأرحب بيت.
- بيت أم مدفن.؟!
- سيان.. بجوار المدفن حجرتان وصالة ودورة مياه.. لعبت في فنائه كثيرا كلما اصطحبتني أمي لزيارة والدي.
- ماذا ذكرك بزيارة والدك اليوم.؟
استطرد:
بعدها مات أخي في حادث سيارة.. أرقدناه بجوار أبيه ورعايته.
- لم تجب.؟ ما الذي ذكرك بهذه القصة.؟
- أريد أن أكون في جوار أبي ورعايته.
- تموت.؟!
- أعيش.
- كيف يعيش الأحياء مع الأموات.؟!
- الضرورة.
- وأنا.؟!
- معي.
ماذا.؟!
لم يعطها فرصة أخرى للكلام.. جرها كالمنومة إلى باب المدفن.. نادى بأعلى صوته:
- يا عم صالح.
هرول رجل مسن.. لحقته غبرة انقشعت عن وابل من الأطفال.
أهلا.. أهلا.. أبن الغالي.
- أهلا بك يا عم صالح.. من كل هؤلاء.؟
- أولا ابني محمد.. صديقك القديم.. ألا تذكره.؟
- أذكره.. أذكره يا عم صالح.. لعبنا كثيرا في صبانا.. كان أعظم مرشد سياحي بين الجبانات.. أين مفتاح الجبانة يا عم صالح.؟
- موجود يا ابني.. تفضل ورائي.. تفضلي يا بنتي.
- زوجتي يا عم صالح.
- زينة.. ربنا يحفظها.
- ما رأيك يا حبيبتي في المكان.؟
- المكان.؟ أي مكان.!!
- هذا المكان.. غرفتان وصالة.. لا مثيل لهم.. سوف أصلح ما عطب من الحيطان وأطلي الجدران وأضع لك القيشاني في الحمام.
- أتهذي.؟!
- الهواء هنا منعش.. الشمس ساطعة.. المياه متوفرة.. المواصلات قريبة.
- فقدت عقلك.؟
- وجدت عقلي.. تذكري تسرب أحلامنا حلما وراء حلم ولا فائدة.. تذكري البادروم الرطب المظلم الذي وافقنا عليه لشدة يأسنا ولم يرض هو بنا.. وتذكري المشكلات الكثيرة من جراء هذه المشكلة.
تقدم عم صالح يحمل صينية الشاي.. تسبقه ترحيباته الكثيرة.. لقلة حركته استقبله مدحت.. تناول منه الشاي مخاطبا إياه وهو يغمز له بطرف عينه:
- ما رأيك لو نسكن هنا يا عم صالح.؟
- خير ما تعمل يا ابني.. محمد ابني ساكن هنا.. ولاده كما ترى يجرون طوال اليوم بلا ملل .. المكان فسيح والهواء يرد الروح.
- كفى.. كفى.. تخرفان.
أطلقت صرخاتها و.. اندفعت خارجة.
أمضى مدحت أسبوعين تحت حد اللوم.. كيف فكر في المستحيل..لكنه لم ييأس.. انفرد بعروسه وظل يروِّضها ويرغبها وهى كطائر مجروح.. يمنيها بعدم دوام الحال.. وهى بين كبريائها المجروحة وحبها المذبوح تستنزف ريشها.. طوت جناحيها –المن والسلوى- نطقت:
- فلنجرب.!
الأيام التالية تميزت بالنشاط وسرعة الانجاز.. أخيرا ضمهما البيت الجديد.
تضايقت منال في أول الأمر وسرعان ما تأقلمت مع المكان.. والجيران.. فجارتها زينب زوجة محمد بن عم صالح تعاونها في تنظيف البيت وشراء ما يلزمها من السوق.. أدركت بفطرتها بعد مدة وجيزة ما ترفل فيه من نعيم.. فقد حصلت على معضلتي هذا الزمان.. المسكن والشغالة.. تناست لحين إلحاحها في ضرورة البحث عن مكان آخر.
وتأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. ما أن أنست منال للحياة الجديدة.. وطاوعت رغبتها في تفقد المكان والتعرف عليه، وكانت لا تغادر غرفتها.. إذا بصرخة ملتاعة تشق الهدوء لتستقر في سمعها وقلبها معا.. صرخة ثانية وثالثه.. امتلأت الأجواء بالصراخ.. أطلت برأسها.. وقع بصرها على ذلك الصندوق الذي نعرفه تماما ونرتعد منه.. والذي لا يتخيل الانسان نفسه ممددا بداخله، رغم تأكده من حدوثه.
ظل الصندوق المحمول على الأكتاف يقترب وخلفه المشيعون بالعويل والتشنجات.. وظلت ترتعد وترتعد.. استقر الصندوق في المدفن المجاور، واستقرت هي على الأرض.
تبادل مدحت وأسرة عم صالح رعايتها حتى عادت إلى وعيها.. ثم راحت في نوبة جديدة من البكاء مع انتفاض جسدها بشدة حتى تقطعت أنفاسها.. ناولها حبتي المنوم وجلس قبالتها.. يعيد حساباته.. يخمن ما سيجره عليه هذا الحادث من مشكلات.. أخذه التفكير الطويل.. أنهك ذهنه.. ثقلت جفناه.. فانطبقتا.
انفرجا على ابتسامة هادئة ووجه مطمئن.. وصوت زوجته:
- لماذا لم ترقد في فراشك.؟
- خشيت عليك.
- من أي شيء.. ألم نر هذا المشهد مئات المرات.؟
- ولمَ كان الفزع والاغماء.؟!!
- فقط لأنها المرة الأولى التي يولي فيها وجهه نحوي.. أراه وهو ينزلق إلى رحم الأرض مكمما مقيدا مضطرا..
- ...........................؟!!
- أما اليوم فقد زاد جيراننا واحدا.

السبت، 24 نوفمبر 2012

قطرات الجرح: :بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


قطرات الجرح
:
امتدت يده تمسح بلل عينيها.. بللت السحابة زجاج السيارة.. تعاطف السماء هدأ جيشان صدرها.. وسط دموعها المنهمرة .. ابتسمت:
-       تمنيت أن تمطر وأنا معك.
-       امنياتك تتحقق سريعا.
أحقا ما يقول ما يقول.. وهذا الذي حدث منذ لحظات وأسال دموعك.. أكان من أمنياتك.؟ قبْلته الأولي.. أخذها عنوة بعد أن طال صبره.. يطلبها وتراوغين.. يرجوها وتهربين.. منه.. من نفسك لا تدرين.. تقفز أمام عينيك صورة القعيد.. مشلول الساقين، الجالس فوق كرسي متحرك.. مهما كان به من عجز فهو الزوج.. صاحب الحق في امتلاك هذا الجسد والانتفاع بأجزائه:
البطن:لامتلائها بأطفاله، الثدي: لتغذيتهم والحنو عليهم، الخصر ليختنق بين ساعديه القويتين.. الشفتان: لا يحق لك أن تنشري أريجهما خارج أيكته الصوبية.. في جيبه مصوغات عقد الملكية.
أيام معدوات و.. يسقط طريح الفراش:
-       شلل نصفي.. قالها الطبيب.
تتحسن حالته بعد حين، يعتدل فوق كرسي دي عجلات.. الانتظار طويل.. طويل.. والعقد لا يزال ملزما.. هذا العود الفارع الريان الصارخ الأنوثة يذبل على عينه.. في الليالي البارد يضطرم صدرك وينتفض.. ينقر من داخله عصفور يبحث عن الضياء.. ينبت له جناحان.؟!
تأخذك الدهشة.!!
- جناحان.! لغرس يتعهده قعيد، لطير يحرسه مشلول.؟! التمرد يوجع الجسد والروح و.. دروس الطفولة تأمرك بكسر الجناحين.. برغمك يزدادان طولا وعرضا ولهفة على التحليق.
تحلقين مغمضة العينين.. عشوائية الاتجاه.. تطيرين في أجواء النسور، ولا عهد لك بأجواء النسور.. تصطدمين به.. النسر القوي طليق اليدين والساقين والضمير.
جذبتك حريته، جذبته قيودك.. حطتما معا.. سيارته صارت جناحيكما والشراع و.. انثالت عباراته تدغدغ الجسد قبل أن تغيض فيه ماء الحياة.
- أهواكِ.. أريدكِ.. فرصة أصلح ما أفسدته الظروف.
- لك قلبي.. نبض عروقي.. هذا ما أمتلك.. ما نسوا أن يكتبوه في العقد.. أما الجسد فله راع.
- راعيه قعيد لا يقدر على ريه.
- حق المالك مطلق في ممتلكاته.
- للممتلكات مشاعر، تطالبك بحقها.
- صورته تقفز كلما هممت.
يالقسوة الواقع.!.. وهذان الجناحان.. ألتهوي بهما في سعير الحب.؟!.. تتعذبين بالاحتفاظ به.. تشقين في البعد عنه و.. فاضت دموعك.. لا تحسبينها أبدا دموعا.. هى حب زائد.. امتلأ الجسد بالحب وفاض.. رشح من كل مسامه وخلاياه.. من العينين والشفتين وأطراف الأصابع و.. كلماته ماضية في إخراج نبتها.
و.. شخص شيطانك يصب هديره في أذنيك:
- من حقه.. لم يبخل بمشاعره إذ حرمك القعيد.. تتشبثين به وأنت ذات جناحين.؟!
ونسرك المنتظر يذوب لهفة وظمأ تستبد به قوته.. الفرار يراوده.. أيدفن رأسه في جناح فراشة أخرى.؟!
- لا.. كابوس لا أطيقه.. لن أمنعه بعد اليوم.
وتقبلين.. تدفعك لهفة التحدي.. غافلة النفس قبل أن تثوب.. تصدمك العينان.. تقفين أمامهما مشدوهة.. ما هذا.!!.. نظرة زجاجية.!! بسمة تشفٍ.!! هما كل ما بقيا منه.. أين نظرة حب عشقتها.. تتحدين من أجلها.. ضاعت بسمة حنان ذبت شوقا إلى طبعها على شفتيك.
ضرب نسره المختال بطرف جناحه على السطح الرائق.. انتفضت دواماته تتلاحق.. نبت له ريش طاووس:
- لم تولد بعد من تتأبى عليَّ.
تسابقت خطواتك إلى الوراء.. راعه التراجع المفاجيء و.. شيطاتك تملؤه الدهشة:
- لماذا التردد.. ألم توافقي على الاقدام.؟!
- ويظنه استجابة لنداء فتوته.؟!
لكم أرقك تمرد القلب على قفصه، وحلمت بيده تهدهده.. نسره الطاووسي لم يصبر على الصيد المضطرب حتى يقـر.. يختال أمامك بفنون فروسيته وأنت الحائرة بين ارتعاد فرائصك وعشقك للحظات حلوة داخل بيته الصغير المتحرك.. وحانت اللحظة:
-       إما العناق أو الفراق.
-       اخترت الفراق.. العناق لا يكون بقرار.
-  انقض نسرك الظاميء يمتص من ماء الحياة.. لم تفلح الأنياب والأظافر في الامساك باللحم الشهي خوف الفرار.. تركاه جريحا دون ارتواء.. ضاعت البهجة في الألم.. انهمرت الدموع ساخنة.. هذه المرة من لهيب مهجتك.. تختلط على الثوب الأبيض بقطرات الجرح.. امتدت يده تمسح الدمع، ترى كيف تمحو الجرح.!
ربما دموع السماء استطاعت.. انطلقت إليها.
****

حفل الرحيل: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


حفل الرحيل
:
حل موعد زفافها الثاني.. عقد القران منذ ساعات.. العروس: فلانة بنت فلان.. العريس: عزرائيل.
انتشر النبأ.. تقاطر المدعوون في زي موحج.. تمددت العروس في استسلام تام.. تنتظر في شوق موعد وصولها إلى بيت عرسها.
مهلا .. الاحتفال أولا.. لحن الوداع.. العويل .. الصراخ.. تشويح الأيدي.. عبارات الوحشة.. ذكر المحاسن.
- ليس يومك يا حبيبة.
- صغيرة السن كبيرة القيمة.
- ليس لك عيب تذكر يا أصيلة.
دوت صرخة مختلفة.. استقرت في القلوب الواجفة.. الأسطى.. صاحبة الكلام المنتقي الملظوم.
علا صوتها.. شمخت حنجرتها.. سمعتها سكان السماء.. دبدبت بقدميها.. أزعجت سكان الأرض.. أضافت لآلات عزفها.. الخدين والصدر.. قلدها القوم.. احتج البعض:
- هذه فتنة.
ثار آخرون:
- للاحتفال طقوس.. للعروس حقوق.. أتزف بلا توديع.؟.. الكاملة.. العاقلة.. الأصيلة.. ال... ال..
اختلت الصفوص.. ضغطت الأجسام بعضها ببعض.. انشقت.. صنعت نهرا صغيرا.. تدحرج خلاله هيكل هلامي.
تجاعيد.. تجاعيد.. تكومت فوق بعضها العض.. أحدثت مخلوقا أثريا مطاطيا.. في غفلة من الزمن دقت أوتادها في قلبه ورئتيه.. جاءت تسعى.. ساقتها عصاتها.. خبيرة الأحساب والأنساب.. تحمل بداخلها واحة من أشجار العائلات.. الجميع يكتمون أنفاسهم.. يبرق لهم خاطر تتعلق الأنظار تجاه هوة.. خمنوا موقعها في الوجه.. رغم انطباقها.
انفرجت حافتا الهوة.. نطقت العجوز.. همدت الأنفاس.. حدقت العيون.. أرهفت الأسماع.. انبسطت الوجوه المرهقة باللطم.. الكل في واحد يأمل سماع عبارة واحدة تفور من هوة العجوز.. تتشكل حروفها:
- زواج فلانة من عزرائيل .. باطل.. سبق وعقد قرانه على أمها.. صارت محرمة بالنسب.
انتظروا طويلا.. لم تقل شيئا.. تمدد صدرها.. هبط.. قلدها القوم.. شهيق طويل متقطع.. زفير أطول ملتاع.. عرفوا أنه:
لا فائدة.. لا موعد.. لا منطق.
اتخذت العجوز مجلسها.. قالت مثلما يقول الجميع:
- الكاملة العاقلة .. ال.. ال...
****

رائع.. لولا: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


رائع.. لولا
:
مسح حبات العرق النابتة فوق جبهته.. يرخي يديه على حافتي الماكيت.. يتمدد على المقعد.. يمتص نفسا طويلا طول أيام العمل والتعديل:
البناء في سمته النموذجي.
صفير القطار غرق في أذنيه.. عاد بالذكريات..انتهى من عمل هذا الماكيت لأول مرة منذ سنوات.. مشروع التخرج.. حمل أوراقا تشهد له بالامتياز.. انتظار العمل ممل.. لماذا لا نحيل الماكيت إلى واقع.. مدينة كاملة بدلا من القديمة المتهرئة.
بدأ بنفسه.. عكف على الماكيت.. يضيف ويحذف.. يعلي ويقصر.
ها هو ذا الماكيت الجديد بعد التعديل في صالة العرض.. ينتظر التنفيذ ونظرات الشيوخ.. العيون تتلألأ:
- رائع.. لولا.
- التنفيذ ممكن.!!
- يحتاج بعض التعديل.
المهندس يشمخ برأسه.. صدره يتمدد.. حلقة العيون تعانق بناءه.
 - رائع.. لولا.
أحصى مخه.. (مائة لولا، وخمسون رائع)
- لولا الخضرة كثيرة.
- رئتا المدينة.!
- لولا أكثر من بوابة بالماكيت.!
- نظرية أقصر الطرق.!
- لولا يتجه ناحية البحر.!
- تسهل المراقبة.!
- مراقبة من.؟
- الطامعون في المدينة الكاملة.!
- موقع عسكري إذن.؟
- وكيف يكون كاملا.!
- الفناء ضيق.. كيف نستقبل الوفود.؟
- أية وفود.؟
- المهنئون بالمدينة الكاملة.. الراغبون في الاستمتاع بجمالها.
- إذن.؟!
- نستبدل بعض العمارات بالفنادق.
- ثم...؟
- الاكثار من دور الملاهي.. في وجه القمر.
- أعتب عليك يا قمر.. تضيء للسهرانين واللاهين.. وتغفل عن الكادحين.
رد القمر:
- اللاهون يستمتعون بنوري.. يوجهون إليَّ عيونا لامعة ممتنة.. الكادحون يغلقون عيونهم في مواجهتي.
- مزيد من الملاهي.. مادام هذا رأيك يا قمر.!
-.........................................
- ثم..؟
- نعطي ظهورنا للمنافذ.
- لماذا.؟
- فلا يظنون بأننا نترصدهم.
- لا بأس.! ندير ظهورنا.
- لن يختل البناء.
- لن يختل.
- والمالك.. أين مكانه.؟
- في أي دور يختار.!
- دوره لابد أن يكون متميزا.
- متميزا.. لماذا.؟!
- إنه المالك.!
- ليكن .. نميز له دورا وسط البناء.
- بل أعلى البناء.
- وكيف يرى.؟
- لديه مجموعة من النظارات المكبرة.
- ليكن هو الأعلى.
- ينقص المدينة.. الدروب الملتوية.
- ملتوية.؟!!
- لأوقات التخفي.
- وأين يكون مكانها.؟!
- فوق المساحات الخضراء الفارغة.
- رئتا المدينة.!!!!
- رئة واحدة تكفي.
- ..................................
- من يسكن المدينة.؟
- الناس.
- لا يحسنون التعامل معها.. تنقصهم الخبرات.
- يتعلمون.
- بعد خراب الأشياء.
- إذن.؟!
- يتعلم الناس قبل البدء في البناء.
- وأين يتعلمون.؟
- نجهز بعض الوحدات.
من يعلمهم.
- خبراء.
- وشروطهم المجحفة.؟!
- نقبلها مؤقتا.
- لا مانع.. نجهز بعض والوحدات:
المدينة الآن جاهزة .
قبل أن يمتص نفسا آخر.. ويتمدد صدره.. وقعت عيناه على البناء.. صرخ.. أغمى عليه.. أعادوه إلى وعيه.. تمتم:
- ليس هو.. لا يشبه الماكيت.. هذا يشبه المدينة القديمة.
****

ســــائق: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


ســــائق
:
كتمت شهقتي وهو يناولني التذكرة.. حظ عاثر.. هذا السائق مرة أخرى.!.. استطاع بالأمس أن يجعلني أسب وألعن –في سري طبعا- الظروف والناس والضمير إلى آخر قائمة تداعيات المعاني.
انهد حيلي فوق أقرب كرسي.. في هذا الميني باص ومن جراء هذا السائق.. بصمات الأمس يئن بها جسمي.. كان الزحام في الذروة.. المحطات تضيق بالوقوف.. العرق يلهب الوجوه.. الأتوبيسات الكبيرة في أقصى تمايلها.. أبوابها تطفح بالكم الرهيب الزائد من البشر.. قلت:
- لا منقذ اليوم سوى الميني باص.
جلت بعيني داخله.. لم أعثر على مكان خال.. لماذا توقف إذا.؟
الإجابة عن سؤالي أملاها عليَّ السائق.. توقف مرة، ومرة.. تقاطر  إليه الناس.. تحول إلى أتوبيس عادي مليء بالبشر الهاربين من لفحة الشمس.
قال أحدهم:
- أفضل ألف مرة من ذلك العملاق المخنوق.
قال آخر:
- كله مكسب.. لهم نسبة في الأرباح.
ضحك السائق وتمايل بمقود سيارته وهو يردد في سعادة:
- يا ناس يا شر كفايا قر.
تأففت كثيرا كلما تزحزحت عن مكان أدبره لنفسي.. زغدني أحدهم.. دهسني آخر.. رشقت إحداهن كعب حذائها في شرابي.. اشتبك خاتم أخرى في شعري.. تنازل أحدهم عن مكانه.. جلست.. تكومت الحقائب فوق ساقي وحتى عنقي.. سقطت فتاة فوقي واعتدلت.
اليوم يختلف.. نصف المقاعد خالية.. ترى ماذا يقول السائق في سره الآن.. حظك من السماء.. ثلاثة دفعة واحدة.. رجل وامرأتان.. ثلاثة أعواد من القصب لفت في أثواب لفحتها الشمس طويلا.. الوجوه نالها حظ الأثواب من البلى.. صعدوا درجتي الميني باص في بطء يسند أحدهم الآخر.
اندلقت المرأتان فوق أقرب مقعدين وهما تترنحان.. وقف الرجل يقلب في صدر جلبابه ذات اليمين وذات الشمال.. يغوص بيده لمسافات طويلة عدة مرات.. في كل مرة يعود بصيد هزيل.. شلن .. عشرة قروش.. شلن.. بين كل صيد وآخر يسعل بضعف.. رتب الأوراق في يده.. تقدم من إحدى المرأتين صائحا:
- هات بريزة يا بت.
ناول السائق الثلاثين قرشا، تفرس السائق في وجهه.. صاح في حنق:
- التذكرة الواحدة ب25 قرشا.
بهت الرجل:
- إيه.. غريبة.. كل مرة أركب ببريزة.!
نفخ السائق:
- يابا ده في الاتوبي الكبير.. هذا اسمه الميني باص..
- قومي يا بت انت وهي.. وقف يا اخويا الله يسترك لما ننزل.. ربع جنيه قال.!
- يا عم احنا غلابة.. رجعين من معهد غسيل الكلى..
- افتح الباب افتح ربنا يفتح عليك.
زغرد قلبي شماتة في هذا السائق الطماع وأنا أرى صيده الثمين يفر من شباكه.
لم استسلم طويلا لهذا التشفي صكت أذني عبارة السائق:
- اقعد يا عم .. اقعد.. ربنا يشفينا جميعا.. محطتين وننزل كلنا.
****