الخميس، 23 نوفمبر 2017

سلفتي.. مركب السلايف



 سلفتي
مركب السلايف
ما كنت أعرف قبل ذلك العمر المديد أن سلفتي تكرهني.. كانت تدعو على بأكل السم من حقدها لي.. ابتسمت وأنا أستمع لزوجة ابنها وأقول مازحة:
- الحمد لله أنها كانت تدعو فقط ولم تستعمل السم ذاته في التعبير عن كرهها لي.
 كانت الكنة وحماتها التي هي سلفتي تتشاجران منذ قليل، وكنت في زيارتهما لما علمت بمرض سلفتي فقلت يجب زيارتها ضمن هذه الجولة السريعة في البلدة قبل سفري للقاهرة، فإذا بي أسمع الصراخ بين الاثنتين من عند الباب.

 أخذت أهدئ الكبيرة وأنهر الصغيرة على سوء أدبها:
 – كيف تتصرفين مع حماتك هكذا وهي تقترب من التسعين وأنت زوجة أصغر أولادها؟!!

فإذا بها تنظر لي بغيظ وتقول:
- أنها تكرهك. 

رددت على الفور:
- وهذا سبب سوء خلقك.. لا شأن لك بي.
- انصرفت الكنة غاضبة واحتضنت أنا سلفتي.. وسألتها:
- أتعرفينني.

ضحكت وقالت:
- طبعا امرأة الأستاذ.

كانت في لهجتها نبرة سخرية لم أحفل بها.. فهي عادتها الملازمة لهذه الجملة:
- هذا كل ما تعرفيه عني.
- أنت أيضا موظفة.
- مقبولة منك.

تبادلنا أطراف الحديث حتى نامت خلاله فتسللت خارجة.. قابلتني كنتها تقول:
- تعالي أقول لك على سلفتك التي تدافعين عنها.

 وانطلقت شارحة دون إذني:
- هذه تكرهك.. من زمان.. لأن حماتك كانت تجلسك بجوار زوجك على مائدة أولادها الرجال لأنك زوجة الأستاذ وأيضا موظفة.. أما باقي الزوجات فيأكلن بعدكم ما يتبقى من فضلات الطعام. وهذه كانت أكثر المتذمرات وتدعو عليك وتقول: «ينزل بالسم الهاري».

 ما كنت أعرف وقتها أنه تمييز لمركز ولكن لضيافة.. أنا من القاهرة وآتي البلد قليلا مع زوجي لزيارة أهله وفقط. 

وعرفت أيضا أن دعوتها غير مستجابة لما أتمتع به من صحة جيدة، ربتُ على كتف محدثتي وتابعت سيري دون محاولة لجرها لتفصح عن بعض التفاصيل.. ولكنني كنت متعجبة من شعورها؛ ليس نحوي ولكن لأن هذه العادات السيئة في الريف ضاربة بجذورها في النفوس قبل السلوك، كيف تغضب واحدة ممن شاركن في تأصيل عادة تفضيل الرجال منذ ولادتهم، والتعود على الأكل مما يتبقى بعدهم، كانت الدار كبيرة وكنت أرى التصرفات كلها متاحة أمامي.. رأيتها أكثر من مرة تأمر ابنتها أن تأخذ الفوطة وتلحق بأخيها وتقف تنتظر حتى ينتهي من غسل يديه.. رأيتها تسمح للولد الصغير بالتطاول على أخته الكبيرة وتنهرها إذا ردت عليه، بل تسمح له أن يتطاول عليها ذاتها، رأيتها وغيرها كيف يدللن الذكور وينعين حظهن في خلفة الإناث، ويحرضن عليها: «اكسر للبنت ضلع يطلع لها أربعة وعشرون».

 الأن بعد أن وصلتْ من العمر عتيه صارت تُخرج ما في أحشائها من أحزان، وتفرغ المرارة من ذكرياتها..
 استدعت ذاكرتي أحداثا قديمة لم تغب لقسوتها؛ كنا صغارا نذهب إلى الريف أسبوعا أو أكثر في ضيافة عمتي التي كنا نحبها كثيرا وتحبنا وتحنو علينا فلا نمل البقاء عندها.. وذات يوم كانت تطبخ وأصابنا الجوع قبل أن ينضج الطعام.. وأخذنا نصرخ: جوعانين.. جوعانين.. وهي تصبرنا وتصبرنا ولا فائدة، فإذا بها تقول:
«أقلي لكم بيضا تتصبرون به؟» قلنا: نعم. 

 وضعت عمتي السمن في الصحن فوق النار فاحت رائحته تثير شهيتنا أكثر.. ثم بدأت تكسر فيه البيض واحدة بعد الأخرى، وأنزلت الطبق ثم وجدتها تميل الطبق إلى جهة وبالملعقة تصعد البيض من السمن إلى أعلى فيصير السمن في الأسفل ثم جاءت بقطعة جبن قديمة هرستها في السمن وهي تقول، البنات تأكل من هنا والولد يأكل البيض.. صرختُ صرخة رجت أركان الدار، خطفتُ الطبق من يدها وخلطت ما فرقته وأنا أقول:
- كل يأكل مثل بعضه.

هذه الواقعة حفرت في نفسي خطا عميقا حتى الآن، تحضرني تفصيلها كلما وجدت تمييزا للولد في التعليم، تمييزا في الميراث ولو استدعى الأمر حرمان أخته من إرثها فأقول:
- هي بدأت بالطعام فتعود أكل كل شيء... وكله مخالفة لشرع الله..

 واقعة أخرى ربما بعد تلك الأولى بقليل لها أيضا خطا في ذاكرتي وهي أن ذهب أخي وحده إلى البلد.. عدة أيام وعاد شخصا أخر.. متمردا ثائرا متحفزا يحاول أن يتحكم فينا أخواته الأكبر.. فإذا أخذ مصروفا يقول الولد له نصيبين هو لا يهمه المبلغ الذي معه المهم أن أخته لا تأخذ مثله، وإذا جلسنا للطعام يقول الولد له نصيبين يقصد إذا أخذت البنت قطعة لحم يأخذ هو قطعتين.. 

 ظللت أتربص به حتى جاءت الفرصة إذ تشاجر مع أخته وأخذ يصرخ فيها أنا الولد لابد أن تطيعي أوامري، وهي تصرخ معاندة.. أسرعت أفض الاشتباك وضربت أختي ضربة على كتفها وضربته هو ضربتين.. اعترض وقال:
- تضربينها واحدة وأنا اثنتين؟!!

فقلت:
- للولد نصيبين في الثواب وفي العقاب.

 رغم كل هذه العادات يا سلفتي التي لم تقاوميها بل ساعدت وغيرك في نشرها وتأصيلها تغضبين لأن أنثى مثلك في سن ابنتك حينها نالت حظا في حياتكن البائسة.. وتأكلك الغيرة منها بدلا من أن تكون لك حافزا يدفعك لكي تعلمي بناتك وتحميهن من سيطرة ذكورك، ليحققن لك ما كنت تتمنين.
وسمعت صوت أمي من العالم الأخر تذكرني بما كانت دائما تردده:
«مركب الضراير صارت، ومركب السلايف غارت»[1].


[1] القاهرة في: 11 نوفمبر 2016م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق