الخميس، 16 نوفمبر 2017

عيني عينك



عيني عينك

 صحا الرجل على استجواب الملكين:
من ربك..؟ ما دينك..؟ من الرجل الذي بعث فيكم؟
وحين اعتدل لم تبصر عيناه.. حرَّك يده لتبحث في تجويفهما:
- العينان ليستا هنا.
بهذا شعرت اليد وأرسلت إشارتها إلى مخ الرجل فصاح على الفور:
- وا عيناه! أين عيناي أيها الملكان؟! ألم أغمضهما أمامكما.
- بلي، ولكن الطبيب نقلهما إلى محجري رجل آخر.
قالها الملكان دون أن يُظهرا استنكارًا أو أسفًا.. رد الرجل:
- حبيبتاي.. هما دليلاي وشفيعاي يوم الدين.. ماذا حدث لهما من بعدي؟!
ردَّ الملكان:
- ما كل هذه الحسرة؟ عيناك أنقذتا رجلا آخر من العمى، فسعدَ هو وأسرته ولك الأجر والثواب.
- أحقًّا لي أجر وثواب؟! فهل لا تزالان تسهران في مناجاة رب العالمين؟! أريد أن أطمئن على عيني.
قال هذا واعتمد بكفيه على ركبتيه لينهض ولكنه سقط.
- ماذا حدث لساقي أيضًا أيها الملكان؟!
- لا شيء؛ أخذهما الطبيب لآخر.
- ولماذا أنا؟ ولماذا ركبتاي؟!
- استطاع الآخر أن يخطو بهما في سبيل رزقه بعدما انقطع به السعي.. ولك الجزاء الأوفر.
- وا ركبتاه! وكيف أمشي معكما لأرى مصير عيني، وركبتي.
- يمكننا حملك.. المشكلة أنك إذا خرجت من هنا فلن تستطيع التنفُّس.
- لماذا؟!
- أنت بلا رئتين.
- وا رئتاه! ولماذا أنا دون خلق الله بلا رئتين؟
- أخذهما الطبيب ليُنقذ آخر كاد يقطع النفَس، فلك أجر إحياء رجل.
- ولماذا لم تحيياني أنا وتحييان رجلاً آخر؟!
- أنت توقَّف قلبك فلم يَعُدْ للتنفُّس جدوى.
- متي توقَّف قلبي وقد دخلت المستشفى بالمغص الكلوي؟
- بعد أن استأصل منك الطبيب كليتيك وزرعهما لآخر توقَّف قلبك لحظات.
- توقَّف قلبي!!
- نعم وحتى لا يموت بلا فائدة أسرع الطبيب الماهر بنقل القلب وأعطاه لآخر كان في انتظاره.
- آخر.. آخر.. وأنا وحرمة جسدي..!!
- إنها مهارة الطبيب، وإنجازات الطب الحديث.
- وا كليتاه! وا قلباه! بئس هي المهارة.
- الطب كل يوم في جديد لك أن تفرح.
- وهل أخذ الطبيب الهمام شيئًا آخر.. قولا مرة واحدة.
- نعم أخذ الطحال، والكبد، والنخاع و...
- إذن لم يبق سوى الجلد والعظام.

سكت الملكان قليلا وقالا:
- احمد ربك أنك لم تجزأ، وتعبأ في أكياس.. لكنت الآن ضمن قائمة الأطعمة الفاخرة.
- أطعمة.. فاخرة..!!
- نعم.. لحساب شركة اللحوم البشرية الأمريكية.
- يا سلام.. أيأكلون لحوم البشر الآن..؟!
- يبدو أن لحمك المقدد، وسنَّك المتقدمة وراء حمايتك من هذا المصير.
ندب الميت ما آل إليه الحال، وتذكر جريمة القتل الأولى حين قتل قابيل أخاه، وحمله على كتفه ودار به في فضاء الدنيا لا يعرف كيف يواري جسده، وهو في قمة عجزه ويأسه لم يفكر أن يأكله.. فصاح منفعلا:
- ولكن هذا ضد الفطرة..!!
- التقدم والحضارة أيها المسكين.. هم الآن يطبخون لحم البشر
بعدة طرق، ويقولون: إنه أفضل طعام.
- آه يا عيني.. لو كانت حبيبتاي معي لبرقتا من الفزع.
- وما يفزعك..؟
- هل تحت وطأة الحاجة يضطر أهلي لبيعي هكذا.. قطعة قطعة بلا رحمة؟!
- لم يبعك أهلك.. فلا تظلمهم.
- تقصد أنهم تبرَّعوا بي؟!
- لا.. لم يتبرّعوا بك.. أنت سُرقت، كله من فعل الطبيب الحاذق.
- الفقير يُسرَق يا ناس!! فأنا لم ألبس ثوبا جديدا في حياتي إلا كفني.
- احمد ربك أن لديك ما يسرق، فأنت مجتمعًا لا تساوي كفنك، ولكن إذا باعوك قطع غيار فأنت تساوي الكثير.. والكثير.
- وما قيمتي بدون أعضائي؟!
- حسبك أن أعضاءك الآن تحيا في النعيم.
- عيناي تريان بعدي!! لابد أنهما تنظران الآن إلى ما حرّم الله.
- من أدراك بهذا؟!!
- لأن من يشتري نِعَم الغير لا يحسن استخدامها.
- قد تكون على حق.. المهم.. أجب عن الأسئلة.

- أمحاكمة بلا شهود نفي وإثبات.. قوما بحملي الآن إلى شهودي.. إلى عيني ونخاعي وبقية أعضائي؛ لتعرفا منها كيف كان حالي معها.
هيّأ الملكان الأسباب لخروج الرجل من قبره، وكان يضمر في نفسه أنه بمجرّد أن يصل إلى أي عضو له يهجم عليه ويسترده، ولكن الملكين اطَّلعا على سريرته فحذَّراه لأنه مات وانتهى أمره.. ثم ذهب به الملكان إلى حيث عيناه:
- ها هو صاحب عينيك.
- صفا لي حاله.
- يجلس في حجرة مكتب فخيم، يتصفح أوراقًا أمامه، ويدقِّق فيها النظر.
- ماذا في هذه الأوراق؟
- حساباته في البنوك، أو حسابات البنوك في حسابه الشخصي.
- وكيف تنتقل حسابات الناس جميعا إلى حسابه الشخصي.
- هذه لعبة ذكاء يلعبها بعض رجال الأعمال لحساب أنفسهم.
- ألم أقل لكما: إن عيني في خطر، كانا معي لا يدقِّقان إلا في كتاب الله وسنة حبيبي (صلي الله عليه وسلم).
- اطمئنَّ الحكومة لا تتركهم.
- كيف؟!
- تتعقبهم.. فمنهم من تقبض عليه وتودعه السجن، ومنهم من يهرب بالملايين فتضطر الحكومة إلى أخذه بالحيلة حتى يعود بالمال الذي هرّبه.
- وكيف تأخذه بالحيلة؟
- تعطيه بعض الصلاحيات، مقعدًا تحت القبَّة مثلا.
- القبة.!! حصانة.!!
صاح الملكان:
- ها هو الرجل يتحرك من مكتبه، ينادي السكرتيرة.
- أريد أن أمضي اليوم مع هذا الرجل.. صاحب عيني.
انتظر إنه لا يزال يكلم السكرتيرة.. يقول لها إنه ذاهب.. يتفحصها بعينيه.. السكرتيرة تضحك.. تقول له: " يا لجمال عينيك"
- جمال عيني أنا.!!
- بل هو يا أخي.
- نعم.. نعم.. بالتأكيد فهما عليه أجمل.
كلُّ الحوادث مبداها من النظر = ومعظم النار من مستصغَر الشرر
كم نظرةٍ فعلت في قلب صاحبها = فعلَ السهام بلا قوس ولا وتر

- أهذا وقت إنشاد الأشعار؟!
- هيا اتْبعا الرجل حيث يروح وصفا لي ما يفعل.
- إنه ينظر لكل امرأة في الطريق، يلفُّها بلمحة واحدة، حتى تلك التي تمشي مع زوجها.
- أعوذ بالله.. وإلى أين هو ذاهب؟
- إلى ملهى راقص.. يغازل الجميلات، يغمز بعينيه لواحدة، يسبِّلهما للأخرى، ويحدِّق في الثالثة.. ها هما عيناه تبرقان حين بدت الراقصة بألوان الطيف.. يتابعها وهي تدور كالفراشة، يظل شاخصًا حتى رجع إليه البصر وهو حسير.. إنه يداعبها بقوله:
"عيني عليك باردة"!
- حدَّث الرجل نفسه بغيظ:
"من يصدِّق أن هاتين العينين الزائغتين كانتا لي"؟!!

والمرء ما دام ذا عين يقلبها = في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسرُّ مُقلتَه ما ضَرَّ مُهجتَه = لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر
صاح الملكان:
- أما زلت تُنشد الأشعار.. لقد جئنا لسؤالك ولم تجب عن الأسئلة!
- أنا فعلاً أفكر فيما كيف يكون عليه الحساب.؟!
-هاتان العينان كانتا معي صالحتين تدخلان الجنة، هما الآن من أهل النار.ِ
كيف تُحرَق عينيَّ بذنب غيري.؟!
والأهم من ذلك، مع من ستشهدان يوم الحساب.؟!
هل ستعترفان بأنني أكرمتهما حين نزَّهتهما عن النظرة الحرام.؟!
وأن هذا الرجل البصباص يهينهما؟
أم ستشهدان بأنه متَّعهما؟ دلاني كيف يكون الحساب؟!!
- لا شأن لنا بما تفكِّر فيه، ولا بهذه الفلسفة، فلنا مَهمَّة محدَّدة.
- ولماذا لم يأخذ الطبيب الماهر عقلي أيضا حتى لا أفكِّر، ويأخذ لساني حتى لا أجيب عن أي سؤال؟!
(حواء- 14 فبراير 2004)
(مجلة المحيط - العدد 59 سبتمبر 2006)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق