الخميس، 23 نوفمبر 2017

ابنة الخال.. حكاية تتكرر



 حكاية تتكرر

كنا نسميها ابنة الخال، ونسميه ابن العم؛ فابن عم العم عم، وابن عم الخال خال.
وأمي التي تحرص على صلة الرحم مهما علا ومهما نزل، لا تكفُّ عن تفهيمنا القربى والنسب والأصل والمنبع، وشجرة العائلة وارتباطها بالأصول والفروع والعائلات الأخرى، لم نجد عائلة من عائلات قريتنا إلا ولنا معها نسبا وصهرا.

 وبيتها المفتوح للقريب والبعيد ومن يمتُّ بصلة، فمن يرجو العلاج أو النزهة أتى إلينا، ومن تريد زيارة أولياء الله الصالحين أو الذهاب للحمَّام أتت إلينا، ومن يحلو له أن يموت في بيتنا يتحقق أمله.

وأمي تستقبل هذا وذاك بترحاب وابتسامة عريضة، وتنهض لتقدِّم الإكرام الزائد عن الحد، حتى إننا كنا نعترض أحيانًا على الإفراط في الكرم، فتلقي علينا الآياتِ والأحاديثَ التي تحضُّ على إكرام الضيف والهشِّ في وجه أخيك، وأن البسمة صدقة والكلمة الطيبة صدقة و و.. إلا هذه الزيارة. 

الأمر كان عاديًّا في البداية.. جاءت الخالة وابنتها، جرينا عليهما أنا وأمي وأختي كالعادة، واحتضنَّاهما وفرحنا بهما وأسرعنا في تجهيز الغداء.. ثم انفردت الخالة بأمي في غرفتها.. وكانت ابنتها معنا في غرفتنا.. فوجئت بأمي تقتحم علينا الغرفة وتنتزعها من جوارنا وتقول لها في حدَّة:
- اذهبي عند أمك.

ثم تحذِّرني وأختي بوجهٍ مكفهرٍّ من الكلام معها، وأنه علينا تجنُّبها مدة بقائهما عندنا، كما حذَّرتنا من السؤال عن السبب.
لم يكن أمامنا سوى هزِّ رأسينا بالموافقة.. ولكن الفضول يقتلنا، نتساءل حتى لو لم نتلقَّ جوابًا.
- ماذا حدث يا أمي.. هل مات زوج الخالة؟
- يا ليت.
- مات ابنها الوحيد؟!
- يا ليت.
- وهل هناك أكثر من هذا؟!

اكتفت بالصمت، فالتزمنا السمع والطاعة.. رغم التوتُّر الذي نعيشه؛ الخالة حزينة وابنتها شاردة، وأمي واجمة، والحال لا يصلح على الإطلاق لأية مجاملة.

 مرَّ أسبوع على هذا الغموض، لا نعرف سوى ما نراه بأعيننا، تخرج معهما أمي كل يوم ويَعُدْنَ ثلاثتهن واجمات منهكات، ثم الأكل والنوم والخروج الباكر والوجوم والكدر وعدم الفهم.

أخيرًا عرفت أنهن يترددن على الأطباء من أجل ابنة الخال التي لا نعرف علَّتها حتى عدن بها في غاية الإرهاق.
قالت أمي: إنها عملت عملية استئصال..... وسكتت.

أمضت الخالة الليل بجوار ابنتها تراعيها وتبكي في صمت، وباتت أمي إلى جوارنا تنتفض ومتشبِّثة بنا، ولما كان الصباح أخذت الخالة ابنتها وسافرتا إلى البلد.. عندما قلت لأمي:
- إن البنت لا تزال مريضة، دعيها حتى تتحسَّن صحتها.

 هزَّت رأسها بالنفي وقالت:
- تستكمل شفاءها ببلدها.
الشئ الغريب أن أمي وكأنها كانت على موعد مع خروجهما من باب الشقة حتى راحت في غيبوبة طويلة.
تناوبتُ وأختي السهر والتمريض لأمِّنا الحبيبة، والصمت يلفُّنا لكنه لم يمنع تساؤل العيون.. وهز الأكتاف وقلب الشفاه كلما عجزنا عن التفسير.. وكلما أفاقت سألناها:
- ماذا جرى يا أمي؟!!

 احتضنتنا معا، وبكل ضعف الدنيا ظلَّت تعطي أوامرها:
- إذا سافرتما. إلى البلد لا تمرَّا على دار هذه، ولا تكلِّما ابنتها، والأفضل ألا تسافرا على الإطلاق.. ثم سمعتها تتمتم: (ربنا يكفينا شر المستخبي)
- أريد أن أفهم، وأقتنع، كما عوَّدتِنا يا أمي.
- ليس كل ما يعرف يقال.
- خلافات في الميراث؟
- لا تكوني لحوحًة.. ثم قرأت قوله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيم}[المائدة:101]
- إذن في الأمر سوء.
عرفتْ كيف تخرصني.. امتثلتُ لرغبتها وذهبت أنا وأختي نمرِّضها، ونشاهدها وهي تنام مقشعرة، وتصحو مفزَّعة، وتُكثر من الاستغفار، وهي تأخذني وأختي في حِضنها وتبكي، وتدعو للخالة بالصبر على بلواها.
نفكر أنا وأختي بصوت عالٍ.
- أو تظنين أن مرض البنت بمرضٍ مُعْدٍ، هو سبب حزن أمِّنا لهذه الدرجة!!
- ربما!! فأمي لا تكذب، وهي تخاف علينا كثيرًا.
لمّا تماثلت أمنا للشفاء قليلا وجلست شاردة مُغْرَورقة، ودون أن نسألها قالت:
- ذنب كبير ارتكبته.. أرجو الله أن يغفره.
- أي ذنب يا أمي؟
- وهل هناك أكثر من قتل النفس!! 

أخفت وجهها بكفَّيها وراحت في نوبة حارة من البكاء وهي تكمل:
- كُتب عليَّ أن أشارك في قتل طفلٍ مكتمل بلا ذنب.. كان ينبض أمام أعيننا.
فهمتُ أخيرًا.. فغرتُ فاهي.. أكملتْ:
- الموعودة بقلة الراحة طوال عمرها استدارت وهي تنزف تريد أن تضمَّه إلى صدرها، لم تستطع.. واراه الطبيب بسرعة ونهرتها أمها.

- ابنة الخالة.. فعلت هذا!!
- خدعها ابن الحرام ورفض أن يسترها.
- لكن حرام يا أمي كيف تشتركين في هذا الذنب؟!!
- الفضيحة شيء رهيب نعايَر به لسابع جدٍّ وسابع حفيد.. فعلته من أجلك وأجل أختك.
ولكن!!
- لقد لجأتْ إلي المسكينة معتقدة أن الخلاص عندي.. ماذا كان في يدي غيره.. واستأنفتْ:
- يمهل ولا يهمل.
- ماذا تقصدين؟!! أن الله سينتقم منه.
- ليتها تأتي من الله قبل أن يتورط أبو البنت في قتله.
- ماذا؟!.. قتله!!
- يستحقُّ! أما رضي أن يُقتل ابنه؟!.. وأكملتْ:
- البنت اعترفت.. راحوا له يرجونه أن يسترها رفض.. أقسم أبوها أن يقتله.
 انعقد لساني ولسان أختي عن الكلام وشلَّ تفكيرنا.. ما هذه القناعة التي تتكلم بها أمي عن الثأر بعدما ربَّتنا على التسامح؟!
وظلّت الأيام تسلمنا لبعضها البعض ونحن نتوجَّس خيفة ونترقّب أخبارًا سيئة تأتينا من البلد.. حتى بعدما تزوجت ابنة الخال من ابن العم، وأطلق الرجال الأعيرة النارية وهم يزفُّون شاشة العرض المُصان! [1]


1]) الألوكة: 10/3/ 2016.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق