ماء
العيون
- يووه ياجدتي.. اخفضي صوتك أريد أن أنام.
- قومى ياحبيبتى توضائي وصلي الفجر.. عمرك الآن تسع سنين
- أنا صغيرة ياجدتي صلي أنت واخفضي صوتك.
-لابد أن تعتادي ياحبيبتي قبل العلقة.. كل يوم أقول لك
هذا الكلام
- يووه ياجدتي.
رغم الكسل والتأفف الذين أبديهما أنهض، وأذهب متذمرة إلى
الحمَّام ثم أتوضأ وأعود نصف نشيطة.. أصلي بجوارها ركعتي الصبح، فقد كانت تصلي منذ
قليل سنة الفجر المؤكدة كما قالت لي، وهي تسامحني عنها الآن، وربنا أيضا يسامحني..
ولكن في السنة القادمة عندما أصل إلى العاشرة لابد وأن أصلي الفرض والسنة لوقتهما
وإلا نالتني علقة ساخنة من كل فرد في البيت بل في العائلة.
بعدما أنتهي من الصلاة يكون النوم قد طار تماما وأبدأ مع
جدتي رحلة الصباح الممتعة لي، والتي أحضر كل عام في الأجازة من أجلها.
أحمل كيس الحبوب وهي تحمل الخبز الجاف نصعد الدرج.. عند
أول شقة فوق شقة جدتي أحاول أن أضغط جرسها.. تنظر لي بعينين واسعتين.. أفهم أنها
ترفض فأتبعها وعند الشقة التي تليها أسألها:
-أضغط على الجرس؟!
ترد:
- ليس الآن ياعفريتة، أواصل الصعود خلفها حتى السطح..
تذهب أول ماتذهب إلى برج الحمام تفتحه وهي تبسمل.. وتقول:
- صباح الخير يا حمامي الجميل.
يطير الحمام ويحط على كتفيها ورأسها ويديها وهي تلقي له
بالحبوب.
- وماذا بعد يا جدتي؟
تنظر لي لتعرف أنني مصغية تماما قبل أن تسترسل:
- المرحوم جدك كانت نيته أن يبني له شقة مثل إخوته لكن
القدر لم يمهله.
عرفت أنها تتكلم عن خالي «صلاح» الذي سافر إلى العراق
منذ شهور.. أكملت:
- ولما مات قسَّمنا كل شيء حسب الشرع، وقال إخوته:
يسكن معك في
الدور الأول، قلت: يوم المنى، يعمرها بعياله، وأنا أشيلهم في عيني.
فجأة يا حبيبي
لقيته شد الرحال على العراق، لماذا ياعمري وحتى لو جمعت ثمن الشقة، يرضيك تخرج من
بيت العيله؟!
استدارت ناحية البط:
- يوووه.. أنت طوال النهار تبلبل نفسك في الماء وتملأ
الأرض هكذا؟ خُلقك ضيق مثل صاحبك، والله لولا أني أدخرك «لصلاح» حين يأتي بالسلامة
لذبحتك الآن، تفضل الفول والعيش المبلول، كل وأسمن، تلقى الرجل راجع هفتان.. هي
الغربة فيها أكل أو راحة.
- متى سيأتي خالي يا جدتي؟
- قريبا إن شاء الله.. هو يقدر يستغنى عن أمه. وسيأكل كل
هذا البط وحده؟!
شهقتُ.. ضحكت وقالت:
- وأنت وأمك وكل الحبايب لأجل خاطر «صلاح».
ثم تنهدت تنهيدة طويلة وقالت:
- سنة كاملة يا حبيبي ألم توحشك أمك؟!
كل عشة تفتحها
جدتي يخرج إلي السطح محتوياتها من الطيور، فاردة جناحيها للشمس والهواء.. فتقوم هي
بتنظيف المكان، وإخراج فرشه في الشمس وتلقي بالفول، والذرة العويجة، والخبز
والبرسيم، فيقبل كل طير على طعامه، إلا الرومي الصغير.. تجلس جدتي القرفصاء، وتقشر
له البيضة وهو ينقرها من يدها صابرة حتى ينتهي إلى آخر فتفوته.
أسألها مندهشة:
- لماذا هذا الرومي يأكل البيض ياجدتي؟!
- نفسه عزيزة مثل الغايب، صلاح ابني يحب يأكل اللقمة
الحلوة ويعيش في المكان النظيف.
تمسك بذكر
الحمام وتلاغيه: تعال يا «صلاح» أنت مثله نفري، أرقد على البيض ساعد وليفتك ولا
تتركها «ينحل» ريشها وأنت واقف تتفرج.
أقول لها مندهشة:
- الحمام اسمه «صلاح»؟
تتنهد وتقول:
- حبيبي طوِّل الغيبة عليَّ، ادعي له يا الحمام يرجع
لأمه بالسلامة.. هو الآن رجُلي بعد أبيه.
وقبل أن تولي
برج الحمام ظهرها لا تنسى أن تقول له لن أتأخر عليك.
أسألها:
- أين خالي «صلاح» ياجدتي؟
- في الغربة يا ابنة الغالية.. راح يجيب المال.
ثم تواصل وهي تحدث نفسها:
- عمر المال ما يساوي الغربة يا بني.. وهل نحن محتاجون
يا ناس.. ماهي مستورة.. قال مسافر يجمع ثمن الشقة.. وهو أنا تأخرت، ماشقتي
موجودة.. وأتمنى يتزوج ويعيش معي فيها.. وهل هو يقدر يوفر ثمن شقة مثل هذه؟! آه من
جيل هذه الأيام.
استدارت جدتي
إلى حظيرة الدجاج.. أخذت المساقي وأعطتها لي وقالت:
- اغسلي واملائي.
عدت بالمساقي نظيفة، وممتلئة فوجدتها قد كنست العشة
وألقت بالذرة والخلطة التي تصنعها له، وسمعتها تقول للدجاج.
غدا أولاد صلاح
يملأوا عليَّ الشقة كهذه الكتاكيت الحلوة.. قولي يارب قرب البعيد ورجعه بالسلامه.
أردد ما أرادت بينما هي تواصل حديثها:
- أنا قلت له اسكن معي في الشقة التي تربى فيها مع
إخوته، وعشت فيها أجمل أيام مع أبوهم الله يرحمه، شقه فيها البركة وريحها خفيف
وتطل على حديقة حلوة.. مهما شفت من بيوت لا أستطيع أن أنام ولا أرتاح إلا في غرفتي.
تسترسل جدتي:
منذ أن بنيت هذا
البيت أنا والمرحوم جدك على أيدينا.. تعودت على كل ركن فيه، لا أستطيع أن أغير
مكاني ولا فرشتي ربنا ما يحرم أحد من بيته.
كيف لا أفهم
وقتها ما تقوله جدتي، وكان أكثر ما يشغلنى احتفالية الطيور التي تحتفي بها.
أرفع رأسى مع الذى يرف حول أكتافها وأخفضها مع الذي يدور
حول قدميها شاخصا ببصره إلى ما في يديها.. أما أنا فسعيدة كل السعادة بهذه
المظاهرة، ولا أكف عن الأسئلة:
- ما أخبار الأرانب الصغيرة التي ولدت في العام الماضي
وأنا خفت من شكل جسمها العارى المرصوص بحذاء عتبة العشة!!
- يوووة.. أكلنا منها كثير.. وأرسلنا لكم منها.. في
الأصل هي أرنبة «صلاح».. أرنبة أصيلة ولود.
أضحك بملء فمي
وأنا أتذكر خروف العيد من سنتين والذي كان مربوطا في الحديقة، وما أن رأيته وكنت
أسير خلف أمي التي سبقتني بالدخول، إذا بي أتوهم أن الخروف ينظر إليَّ ويتوعدني،
فأصاب بالرعب وإذا بي أستدير وأسرع الخطى إلى الخارج.. وقد صدق حدسي فقد قطع
الخروف حبله وأسرع خلفى.. ظللت أجري في الشارع وأصرخ حتى أمسك أحد المارة بالخروف،
وأمسك بي خالي «صلاح»، واحتضنني وهو يلهث من الركض في إثرنا، وهدأ من روعي وهو
يقول:
- سوف أذبح هذا الخروف أمام عينيكِ حتى لا يفعلها معك
مرة أخرى!
عدت وأنا أمسك
بحبل الخروف وفي الحديقة أعاد ربطه جيدا، وجعلني أركب على ظهره قليلا، وكلها محاولات
لكي يرفع عني الرهبة ويعيد إلي سكينتي.. ويومها انحنى خالي على ركبتيه ويديه مثل
الخروف وأركبني على ظهره، وهو يمأمئ مثله، وأنا أضحك، وجدي يضحك.. ولم ينس في آخر
الزيارة أن يجعلني أسلم على الخروف وأربت على ظهره بيد وأمسك ذيله باليد الأخرى
عائدتين إلى بيتنا.
ضحكت أنا وجدتي ونحن نتذكر تلك الحكاية وأقول لها:
- والله خالي «صلاح» طيب جدا.. يارب يأتي اليوم.
انتهت جدتي من
مهمتها مع الطيور.. أمسكت بزوج من الدجاج وبزوج غيره في اليد الأخرى واتجهنا ناحية
الدرج.. وهنا سمحت لي أن أسبق وأدق الجرس عند أول شقة بعد السطح.
هرول ابن خالي «حسن» يفتح الباب ثم يرفع صوته:
- بنت عمتي وجدتي يا ماما.. دخلتُ وفي إثري جدتي، تناول
ابن خالي زوج الدجاج من يد جدتي ودخل به إلى أمه، وعاد مسرعا وتناول الزوج الأخر
ونزل به إلى الشقة التي تحت شقتهم، بينما هب خالي «حسن» واقفا يستقبل أمه.
- صباح الخير يا أمي.. ثم يقبل يديها:
- كيف حالك يا ست الكل؟
- بخير يا حبيبي طالما أنت بخير.. نظر إليَّ وتابع كلامه
ماذا فعلت معك هذه الشقية؟
- لعبت مع الدجاج والبط وسألتني عن الغائب الحاضر.
- غدا يأتي بالسلامة.. وتفرحي به وبعياله، كما فرحت بنا
جميعا.
- أكتب له يا «حسن».. قل له أمك لا تريد أي شئ من الشقة
سوى غرفتها.. أنت متربي على الغالي يا حبيبي، ولست حمل غربة وعذابها.
- سيكون كل شيء على ما تحبي يا غالية.. فقط أعطي له فرصة
يجرب حظه.
- الغائب حتى يعود.. مزيدا من الصبر يا حاجة، ونحن جميعا
من حولك.
جاء صوت زوجة خالي قبل أن تظهر تحمل صينية الإفطار.. رد
خالي على زوجته:
- خفي عن أمي يا أم العيال.
- هو أنا قلت شيء خطأ.. الغائب له معزة خاصة.. ربنا
يرجعه بالسلامة.. وضعت الصينية.
- تأخرت على الإفطار اليوم يا حاجة.. الأولاد رفضوا
الأكل من غيرك.. بسم الله حتى يلحق ابنك شغله.
كان الإفطار اليوم في شقة خالي حسن الذي نزل إلى عمله
بعد أن قبَّل يدها مرة أخرى وأمر ابنه أن يقبَّل يد جدته.. وهمت جدتي بالنزول
وقالت زوجة خالي.
- خارجه وراء ابنك على طول.. ابقي معنا قليلا.
ردت جدتي:
- ألحق ابني الثاني قبل ما يخرج.
نزلت الدرجات وتوقفنا عند الشقة التالية.. فتحت زوجة
خالي وصاحت:
- الحاجة وصلت يا «محمد».. أهى بخير ونازلة من فوق.
أسرع خالي «محمد» مهرولا يستقبل والدته وقد لبس نصف
قميصه قبَّل يديها ورأسها قائلا:
- انشغلت عليك يا حاجة.. نصف ساعة تأخير عن ميعادك،
والإفطار جاهز.
- سبقتك عند «حسن».. النهاردة يومه.. كل أنت وعيالك
بالهنا والشفا.
أحببت طقوس جدتي وأخوالي وكنت في سني الصغيرة أحس لها
بمذاق حلو ونكهة محببة، وكان يقر في نفسي أن أخوالي هؤلاء أطيب وأبر رجال الدنيا،
وأن جدتي شيء مقدس يتبرك بها كل منهما قبل أن يبدأ يومه.
كنت في كل أجازة الصيف أذهب إليها أخطتف بعض الأخبار
وأتزود بهذا العبق الحلو.. واستمرت غربة خالي ثلاث سنوات أخر، وأنا في كل عام أذهب
وأعيش ذات الطقوس التي تعزفها جدتي مع الطيور أولا، ومع أولادها وأحفادها ثانيا..
وفي كل عام أثناء توجعها على الغائب تضيف عدد سنين الغربة:
- سنتان يا نور عيني، ثلاث سنين يا حبيبي.. أربع سنين يا
عمري ولا شيء غير الخطابات؟!
في أجازة الصيف التالي ذهبت إلى جدتي كالعادة.. وكان
خالي «صلاح» قد عاد منذ شهور قليلة، والعجيب أن جدتي كانت ليست في حالة السعادة
التي كنت أتوقعها لها بعودة ابنها الغالي عليها:
- لماذا أنت متجهمة في وجه خالي «صلاح»، يا جدتي، وماذا
يفعل في السطح؟!!
لم ترد وعرفت الجواب متناثرا على ألسن الصغار والكبار..
وأحاديثهم الثنائية والثلاثية والجماعية والفردية.. خالي «صلاح» يبني حجرة فوق
السطوح لتقيم فيها جدتي.. سألتها:
- لماذا أنت غاضبة وحزينة؟!.. قالت:
- على آخر العمر ياولادي تدفنوني بالحيا.. أخرج من بيتي
وأنا حية:
- وماذا فيها يا جدتي سيبنون لك غرفة جميلة وحمَّاما
خاصا، وينقلون لك سريرك ودولابك.. ردت:
- وذكرياتي...؟!
ارتجف قلبي.. نظرت إليها فأكملت:
- بنيت البيت مع جدك طوبة طوبة، شلت المونة والرمل على
رأسي.. لا يغرك الحي الراقي الذي نسكن فيه، من زمن كان صحراء، وكنا من أوائل الناس
الذين جاءوا وعمروا في البداية.. بنينا شقتي والحديقة.. خلفت صبياني كلهم والبنت
هنا.. أمك تزوجت وأخذها أبوك إلى بيته، ولما جاء الدور على الكبير «حسن»، قلت
الولد لا يخرج من بيت أبيه، بنينا له شقة والثاني أيضا بنينا له، لا أترك ابني
أبدا؟
- وكانت نية جدك أن يبني شقة أخيرة ل«صلاح» كإخوته لكنه
رحل.. مات وتركني لأولادي يهينوني ويخرجوني من بيتي.
- يقولون يا جدتي إن هذا في صالحك حتى تكوني بجوار طيورك
وحتى يعفوك من طلوع الدرج.. والذي سيزيد دورا إذا بنوا شقة رابعة.. مصمصت شفتيها:
- قلبهم عليَّ يعني!!.. يتركوني في حالي أنا وجدك.
فغرت فاهي:
-جدي!! ألم يمت جدي!
قالت بهدوئها المعتاد:
- مات عندكم أنتم.. أما أنا فأراه في كل مكان فيه أجلس،
وفيه أمشي.
ونهضتْ تفسر لي هذا اللغز:
- كل يوم نصلي الفجر معا هنا في ذات المكان.. ولما كان
يرجع من شغله تعبان أدلك له رجليه بالماء الدافئ والملح.. هنا فوق هذه الكنبة..
وآخر اليوم نجلس هنا نتحدث ونقول لبعضنا أحوال العيال وماذا نفعل لهم.
تنهدتْ وهى ترفع عينيها:
- انظري صورتي مع جدك ونحن ذاهبان إلى الحجاز.. من يومها
وهي فوق هذا الحائط لو انتقلت إلى مكان آخر فقدت معناها، يريدون لي أن أعيش بلا
معنى.
لم أكن أعلم أن بداخل جدتي كل هذا المخزون من الألم،
والحب.. تعاطفت معها فقلت لها بحماس:
- اعترضي يا جدتي قولي لا!
أسندت رأسها بيدها وقالت:
- قلت لا وألف لا.. لكن من يقرأ ومن يسمع!!
تركتها في أساها، هذه المرة وفي قلبي مشاعر لا أعرف
وصفها، أهمها شعوري بأن جدتي بدأت تفقد حياتها مادامت ستعيش بلا معنى كما تقول.
وتم نقل جدتي
إلى الغرفة الجديدة.. وتم زفاف خالي في شقتها بعد أن غير ملامحها، ومرت الأيام
ودعتني أمي لزيارة جدتي معها.. فهي مريضة.. وآخر اليوم طلبت من أمي أن أبقى معها
ليومين، ففعلت فهي تعلم مدى حبي لجدتي.
في الصباح صحوت على صوتها وهى تصلي دون أن توقظني كما
كانت تفعل.. سألتها:
- لماذا لم توقظيني يا جدتي؟
- كل حي معلق من عرقوبه، تريدين أن تصلي قومي؟ لا تريدين
نامي.
نهضتُ شاردة أفكر في كلامها.. كيف فقدت حماسها لهذه
الدرجة.. بعد أن انتهينا من صلاتنا وتسبيحنا قلت لها:
- الآن لا نحتاج إلى صعود الدرج نخرج من باب الغرفة لكي
نطعم الدجاج والحمام خطوة واحدة ونكون عندهم.
وجدتها تضم كفيها وتفردهما في تحسر وتقول:
- وأين هي الطيور يا حبة عيني.. كان زمان وجبر.
اندفعت أفتح الباب وأسرع إلى العشش فإذا هى خاوية على
عروشها لا حمام في البرج، ولا أرانب في الخن، ولا دجاج في العش، ولا زرع أخضر في
القصاري:
- لماذا يا جدتي؟!
وتضاربت الأقوال.. فمن قال:
- كسل وكبر سن، لم تعد قادرة على خدمة الطيور.
ومن قال:
- تعاقبنا لأننا لم نعترض على نقلها إلى غرفة السطح.
وقالت العروس الجديدة الحامل:
- حتى لا تغذيني أثناء الولادة.. تريد أن تأخذ زمنها
وزمن غيرها!!
أما جدتي فقالت:
- أتشرب الطيور من ماء العيون[1]؟!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق