الخميس، 16 نوفمبر 2017

زهرة الحب لمن



زهرة الحب لمن

هي:
 ظل طائرُ الفشل ينقر في جدار عشِّ زيجتي المنكوبة، حتى استخرج منه القذيفة الأخيرة التي انطلقت في وجهي منذ دقائق:
"أنتِ طالق".
 لم أفاجأ بالكلمة كما حدث أول مرة، وكانت أخفَّ قليلاً في المرة الثانية، أما هذه المرة فربما لأنني كنت أتوقعها أوأنتظرها، فلم يرتجف جفناي ولم تصدر عني شهقة.
 ربما أكون قد تبسمت، لا أذكر، كما لا أذكر كم مرَّةً كرَّرت هذا السؤال على نفسي: "كيف وأنا الأديبة الشاعرة الرقيقة المهذَّبة بشهادة الجميع أتحمَّل هذا الذي خرج لتوِّه من إهاب الزوج ليدخل في إهاب طليقي.
 أتذكر نفسي حين قلت لزميلة الدراسة: عندما أتزوج سأكون موفَّقة في حياتي، فلي قدرة أن أتكيَّف مع أي شخص بأي طباعٍ، أعرف متى أتكلم ومتى أصمت ومتى أشد ومتى أرخي، ولكن ماذا عساي فاعلة مع زوج لا يقدر على ضبط زوايا عينيه!!
فتأخذ كل أشكالها الحادة والمنفرجة، وراء البيضاء والسمراء والتركوازية، الرائحة منهن والغادية.
رقة مشاعره تضطره لأن يستقبل دموع الهيفاء بحِضنه، وكرمه الزائد يضطره لأن يناول الشقراء حافظته، وإنسانيته المفرطة تجبره لأن يسكب للسمراء من حبره فوق بياض أوراقها ويزينها باسمها، وتتمة للجود يقدِّمها بنفسه لوسائل الإعلام، والنقَّاد.
المهم أن كلهنّ يجدن في قلبه متَّكأً يستندن عليه حتى ينعسنَ.
وهو يفعل ما يفعل في وجودي بدم بارد، ولمَّا قلت له بهدوء:
- إن هذا يجرح كرامتي.
قال بالهدوء نفسه:
وكيف أغضُّ طرفي أهو أعمى= وكيف أرد قلبي أهو صلبُ
 الأبيات لشاعر زمانه "صالح جودت" وكونه يستشهد بكلمات شاعر غيره ليس اعتباطًا؛ ولكن ليفهِمَني أنها سنَّة متَّبعة من القديم، لم يبتكرْها هو.
 ولأنها توافق هواه يرددها ويغنِّيها ولكل بيت فيها مناسبة عنده، فحين يغازلني يمنُّ علىَّ بباقي الأبيات:
تخذتك دونهن هوى مقيمًا = له بيت وناصية ودربُ
وبعتُك عشرتي ووهبتك أسمي = ولى مهما ارتحلت إليك أوبُ
وأما الأخريات فهن كأسي = من الإلهام أشربها وحسبُ
 كم هو كريم أن وهبني اسمه، وكم هو يحتاج لشرب كؤوس الإلهام من شفاه الفتيات والسيدات! وأنا كشاعرة مثله أستجلب كؤوس الإلهام من الخيال وحسب!
أطلق قذيفة الطلاق الأولى عندما قلت قصيدة في محفل، وأُعجِب بها النقّاد وأشادوا بقدرتي على التسامي بالمعاني مما يسمو بالروح، وأن قصيدتي أشعر من قصيدته التي تعتمد على الوصف الحسيِّ واستخدام ألفاظ عفا عليها الزمن.
 ورغم أنني تجاهلت الأمر تمامًا؛ خوفًا من توتُّره وهو يقود السيارة، فإنه ظل يكرِّر كلام النقاد مع وصفهم بالغباء وعدم القدرة على التمييز، وأثاره إلى حدِّ الهوس أنني صامتة، فطلب مني الكلام، فقلت متحفظة:
- لا تلتفت لرأي النقاد، لك الحرية في تناول الموضوعات.
فإذا به يثور أكثر ويقول:
- تسخرين مني، تظنين نفسك شاعرة حقا، أنت لا شيء.. لا شيء على الإطلاق.. "أنت طالق".
 ثم استدار فورًا بالسيارة حتى رمى بي أمام باب البيت عند أهلي، وانطلق عائدا..
قبل مولد اليوم الجديد جاء يبكي ويعتذر، ولم أدعه يستجدِ كثيرًا، سامحته، وعدت معه.
القذيفة الثانية كانت من أعجب ما يكون.. شاهدته يغازل امرأة وهي لا تستجيب وهو لا يكفُّ، ربما تكون متحرجة من وجودي، همست في أذنه: سأغادر الحفل حالاً حتى تأخذ راحتك.
تحيَّر كيف يتصرف ثم قرر أن يمشي معي، وظل صامتًا طوال الطريق خوفًا من أن يكرِّر ما حدث من قبلُ، وفور أن دخلنا من باب الشقة اندفع فيَّ:
- تتفنَّنين في عكننتي، ما معنى أن تمشي وتتركينني، ولماذا أتيتِ معي إذًا.؟!
"يا الله! هل أذكِّره أنه هو الذي ألحَّ على كي أذهب معه!! هل أذكره أنني اشترطت عليه احترام وجودي أو يذهب وحده!! ورغم أنني لم أذكره ولم أوبِّخه، ثار واندفع أكثر:
- نظراتك لا تريحني كأنك تقولين: مجنون ألح على بالحضور ثم يقول: لماذا أتيتِ؟!
" الحمد لله أنه يدرك وحده؛ ولكن متى يصمت؟ لا أحد يعلم.. ظلَّ يعدِّد محاسنه وقدراتِه، ويقول: أنا.. وأنا.. ولما تحوَّل ضمير الأنا إلى أنتِ ظل يعدِّد مساوئي، حتى صدّق نفسه، واكتشف أنه كثير على فقال:
"أنت طالق".
 لما تفوَّه بالكلمة وضع يده على فمه من المفاجأة؛ ولكن هيهات لقد انطلقت وسجِّلت كما انطلقت منذ دقائق قذيفته الثالثة.
وفعل نفس الشيء.. ظل يعتذر ويوبِّخ نفسه وأنا صامتة لا أكترث، ثم نهضتُ وأخذتُ أستعدُّ لحفل الليلة، وأنا ألقي عليه أوامري:
- في الحفل لا علاقة لك بي تذكَّر أنك طليقي لا زوجي، لا تنس غدًا أن تُتمَّ إجراءاتِ الطلاق.. فيها سجن لو تأخَّرت.
ركع على ركبتيه يرجوني أن نظل زوجين أمام الناس، ونذهب إلى الحفل معًا.. وافقت.. هل أضيع على نفسي حفل اليوم المميز، وأجلس لأندب حظي؟!
قررت أن أنتقي من حفل الليلة زوج المستقبل، وعلى مرأى منه لأكيل له الصاع صاعين.
فهذا الذي يرشقني بنظراته على حذر منذ زمن ولسان حاله يقول: هو لا يستحقك، كان أول من تبسّمت له فاندهش وأخذ يتلفت يمينا ويسارا، فلما تأكد أنه المقصود أرسل ابتسامة صغيرة خجلة مع إيماءة من رأسه فانتقلت إلى جواره.
دار الحديث هسيسًا بيننا، ولما وجدته متحرجا أخبرته أنني بائنة من زوجي منذ ساعة فقط.
رفع تصريحي هذا عنه الحذر كما رفع درجة حرارته، وأخذ يبثُّني أشواقه ويعترف بمشاعره من أول يوم رآني.. ووجدت فيه لطفا ومرحا وذكاء، حتى قال:
- كلما رأيتك في حفل كنت أسميك بيني وبين نفسي سيدة الحفل الأولى، قلت له:
- وأنت اليوم فتى الحفل الأول.

هو:
 كيف تتصرف هذه المرأة بهذه الحماقة مع هذا الرجل، وهكذا أمام الناس وفي وجودي، صحيح أنني سقيتها من ذات الكأس مرارا لكنني رجل، وصحيح أنها ليست زوجتي الآن لكن الناس لا تعلم ذلك.!!
 ثم إن هذا الطلاق لا يقع لأنني لم أكن في وعيي، غدا سأذهب إلى المفتي وأقول له:
لم أكن في وعيي أنا كثير الحلف بالطلاق وهذا لا يوقعه.
ما لي لا أجد في نفسي القدرة على النظر إلى غيرها، لم أجد في الحفل أجمل منها، ولا أرشق.
هكذا تضحكين أمامي بصوتٍ عالٍ ومنطلق لا أثر فيه لحزن.. هل كنت تتمنَّين الطلاق، وهكذا تهامسين هذا الشويعر ال......
أكيد تفعل ذلك لتستفزني وليس من حقي أن أوقفها، وإلا أعلنت أمام الجميع خبر طلاقنا، وأنها في الحفل بصفتها الشخصية كما هددتني. يجب أن أنسى أمرها الآن وأفكر فيما يجب فعله بعد الحفل، وماذا سيكون مصيري بدونها؟ هل أكتشف الآن أنه لا عيش لي بدونها، وأنها نعم الزوجة والحبيبة؟
تتجسد أمامي أخطائي كما تتجسد أمامي امرأة مثيرة وجذابة، ما يدهشني أنها لم تفقد أعصابها وتنطلق مازحة مع الجميع، كما أنها لم تفقد وقارها أيضا.. هل اكتفت بهذا الشاب تسلية؟!!
ماذا يقول لها في أذنها فتضحك؟ وماذا قالت له؟ حتى يتجرَّأ هكذا فلا يعيرني اهتمامًا.
نسي هذا الصعلوق أنني زوجها، وأنني شاعر كبير يشار له، لابد أنها تشجعه عليَّ، ربما أخبرته بالخبر المؤسف فانتهزها فرصة، فنحن الرجال لا نضيع الفرص، أنا أيضا الفرص أمامي، وها هن الجميلات يتمنين التحدث معي، ولكنني عازف عنهن، تشغلني تعاستي القادمة.
لا أتخيل نفسي افتقدتها وسأعمل كل حيلة لاسترجاعها، ولا حل سوى القول بأنني لم أكن في وعيي.
آه يا حبي الوحيد! لو تدرين كم أحبك! وسبب حماقتي غرور تملَّكني بأنني ضامنك ومهما فعلتُ فلن أفقدك.. لا يجب أن تحاسبيني على حماقتي وتهوُّري.
أعدك من الآن ستتغيَّر سلوكياتي، وسأعمل على رضاك، وها أنت ترين جلوسي منزويا أشيح بيدي لأي فراشة تقترب، وعيناي مثبَّتتان عليك، والنار تأكل قلبي لتهامُسك وهذا الشاب.
تأكَّدي أنني سأتغير، سترين رجلا آخر، زوجا وحبيبا وحدَبًا وصوبًا، سيعجبك الرجل الجديد الذي سأكونه، سترفلين في السعادة التي أصنعها لك خصيصا، ستكونين ملكة متوَّجة وسيعلم الجميع كم أحبك وأحترمك وأعلى من قدرك حيث وُجدنا.. أما الآن يا نور العين فلا حيلة لي سوى أن أتركك تنعمين بوقتك وأتحرق بشوقي.
حبيبتي، يقترب الحفل من موعد الانتهاء وقد أبدعتِ كعادتك بقصيدتك، وملكتِ القلوب كعادتك، أنتِ حقًّا شاعرة جيدة.
أنا أيضًا اليوم كنتُ موفَّقًا لأنني ألقيت القصيدة التي كتبتها يومًا من أجلك، وألقيتها اليوم من أجلك أيضًا، أكيد فرحتِ بسماعها موسومة بمشاعري الفيَّاضة نحوك رغم تظاهرك بالا مبالاة.
الكل هنا يعلم أن القصيدة لك؛ كتبتها أيام الخِطبة، والكل كان مبهورا بالقصيدة حتى أنت.. أتمنى أن تفوز قصيدتي بزهرة الحب لكي أهديك إياها وأثبت لك وللجميع كم أحبك، فتساعدني زهرة الحب على استردادك مرة أخرى.
يا الله لقد فازت قصيدتي بالفعل!! وقف منسق الحفل يعلن فوز القصيدة: أستاذنا الفاضل لمن تهدي هذه الزهرة.؟
إنها فرصتي يا حبيبتي لأصالحك:
أهديها لحبيبة عمري الماضي والمستقبل، أهدي زهرة الحب لزهرة أيامي التي لا أستغني عنها أبدا، والتي قدْرُها عندي يفوق ما أظهره لها من مشاعر.. تفضَّلي حبيبتي تسلَّمي الزهرة.
 كأنها البدر مقبلا، بنعومة الحرير أخذت من يدي الزهرة، وشكرتني بإيماءة صغيرة متكلفة.. ثم أمسكت بالميكرفون لتعلن:
- وأنا بدوري أهدي الزهرة لفتى الحفل الأول.
(مجلة القصة- ديسمبر- 2010)
(الثقافة الجديدة وحواء- يوليو 2014)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق