علبة من القطيفة
منذ
رحيله المتوقع المفاجئ وهي تعاني الوَحْدة.. رحل الحبيب.. شريك العمر.. أربعين سنة
لم يتفارقا.. لم يتخاصما.. لم تقل له غير نعم، ولم يقل لها غير نعمين.. الفترة
الأخيرة انشغلت فى تمريضه.. لم تشعر بتعب رغم كبر سنِّها ووهن عظمها.. لم تشعر
بملل رغم طول رقاده وكثرة متطلباته.
تتعب ابنتهما
الشابة وهي لا تتعب، يسأم ابنهما الفتيِّ وهي لا تسأم.. وكيف تسأم الروح من نفسها،
والحياة من حياتها؟!!
كان الأطباء
يؤكدون عدم جدوى العلاج وما هي إلا المسكِّنات والنهاية تقترب، وهي وحدها التي
تجلب لهم الأمل والرجاء، وتؤكد أنه باقٍ من أجلها.
الموت المتوقع
خفض جناحيه وحمله بعيدًا.. جاءت مفاجأة مرة، وصدمة قاسية وركلة من القدر لم يحسب
فيها ضعف قلبها.
لم تبك ولم تصرخ، وأسرعت إلى شرفة طالما جلسا فيها
ينظران إلى شجرة التوت، وشجرة المانجو، ففى حديقتهما شجرتان، شجرة كبيرة بعمر
السنين ذات فروع وارفة تصدُّ الشمس وتأذن للنسيم، وأخرى صغيرة بعمر الأمل لها
مستقبل وثمر.
انقضى يوم، ويوم، وشهر، وشهر، وهي على حال لم تغيره..
إما في شرفتها ناظرة لحديقتها حتى الطعام تتناوله حيث هي، تبتسم أحيانا ولا يعرفون
لماذا، تهز رأسها أحيانا ولا يعرفون علام؟.. ولا تقوم إلا لقضاء حاجة أو للصلاة،
وتعود بمصحفها وسبحتها.. تقرأ وتقرأ، وتنظر وتنظر، وتتحسس كوب الليسون الساخن الذي
وضعته ابنتها منذ دقائق وانسحبت في هدوء.
أحيانا تبقى
الابنة لتسامر أمها.. فإذا بالأم هي التي تحكى لها عنه، أيامه الحلوة وعشرته
الطيبة، طوله وهيبته، كلامه وحكمته، والرجال مثله قليل، حبهما الذى كان ولا يزال
حديث العائلة..
كيف كان يمنحها حبًّا لا يضاهى، وسعادة لا مثيل لها..
تحدثها عن أوقات كانا يتنزهان فيها على النيل، وكيف كان النيل يضحك عند رؤيتهما
معا، وتحكى عن قصة هذا البيت الجميل الذى بناه لأجلها، وجعل له حديقة كرغبتها،
وزرع عند بابه ياسمينة ولبلابة كلما طالت كبر حبهما.. وهنا في الجزء الخلفي زرع
التوتة ورواها بكلامه عن حبيبته، فكانت تنتشي وتتفرع.
قالت لها البنت:
- أمي كل ما تقولين نعرفه، ولكن احكي شيئا لم نعرفه.. عن
سر بينكما خاصة.. لمعت عينا الأم:
- سر.. أقول لك السر!
- نعم يا أمي.
- ولكن هذا لا يجوز، هو قال لا تحكي عنه فكيف أحكي أنا
الآن؟!
- ولكن يا أمي هو أبي وحقي أن أعرف عنه ما لا أحد
يعرفه.. وأنا أشعر أن هناك سرًّا تخفينه في تلك العلبة القطيفة التي لا يفارق
مفتاحها صدرك.. ماذا في هذه العلبة يا أمي؟
- أوراق.
- وماذا في الأوراق.
- حكايات.
- عن أي شيء هذه الحكايات.
- حكايات كالتي أحكيها لكم.
- أودُّ أن أقرأها.
بعد شرود طويل قالت:
- اتركيني أفكر.
جَنَّ الليل.. وجاءها هاتفه في موعده ككل ليلة.
- هل ستحكين لها عن السر؟!!
-هي تلح كثيرا.
- لكنه سرنا لا أحد يعرفه.
- وهاأنذا لم أبح بشيء حتى الآن لكنني قد أضعف، أو قد..
- أكملي.. لماذا سكتِّ؟! قد تموتين وهذا له موعد، وعندها
سيهرعون إلى العلبة القطيفة.. ستتغير حياتهم وينهدم ما بنيناه طوال السنين..
دبِّري أمرك.. لماذا أنت عاجزة عن التصرف؟!!
هبت واقفة.. وما العمل.. سأموت وسيأخذون المفتاح من
صدرى.. وأول ما يهرعون إليه هو العلبة القطيفة ليعرفوا ما بها.
قامت وأخرجت علبتها.. وبدأت تقرأ.. وظلت تقرأ وتقرأ..
وتنهمر دموعها وتنهمر، أنهت قراءتها وسكن حنينها، ثم خطر لها الحل.. قامت إلى
حديقتها.. حفرت في ركن مواجه لشرفتها.. جاءت بأوراق سرهما مزقتها إلى أصغر شيء،
دفنتها تحت الشجرة.. ثم روتها بماء الورد.
الأيام
القليلة التالية تحوّل سؤال ابنتها عن ماذا في العلبة القطيفة إلى.. لماذا تروين
هذا الركن خاصة بالماء المعطر يا أمي؟!!
تنظر إليها في مودة ولا تجيب.
لما صعدت روحها وهي على حالها تنظر من شرفتها إلى ركن
سرها.. نظروا حيث تشير وجدوا فرعا أخضر ينبت زهرا أبيض يحيى روحها المرفرفة فوقه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق