الخميس، 16 نوفمبر 2017

الشاطر قنديل



الشاطر قنديل

 دقَّت الدفوف.. أعلن الدرويش:
بسم الله نبدأ الموكب، صحت على أمي:
- زفة عم قنديل الحلو.. أنا ذاهبة لألحق بالزفة.
تصرخ أمي:
- يا بنت عيب أنت كبرتِ على هذه التصرفات.
يصرخ أخي الصغير رافعًا ذراعيه لكي أحمله.
تنهّدت أمي في استسلام:
- خذيه معك.
 "ألفع" الولد أذرعه في وسطي، وأجري لألحق بالأولاد؛ بنات، صبيان، حفاة ومنتعلين، ورغم أنني أطْولهم قامة، لكن لا يشكل لي هذا حرجًا، ألفُّ أخي باليد اليسرى وأشير باليمنى:
- انتظروا انتظروا أنا معكم.
تصرخ فتحية بنت عم حسن صاحب السرجة:
- الزفة واقفة قدامك، مالك "مسربعه"؟!!
عم قنديل فوق الحصان، والرجال يتحلقون حوله، يتشاورون من أين تبدأ الزفة، يرتفع صوت أحدهم:
- مثل العام الماضي؛ المسيرة من درب الجماميز، وحتى بركة الفيل، ثم شارع قدري فميدان السيدة زينب، ونمشي حتى شارع السد، ثم أبو الريش، ثم نعود بإذن الله.
الجميع:
-على بركة الله.
 نلف الشوارع خلف الحصان، عم قنديل فوقه مثل الباشا، جلباب ناصع بياضه، فوقه عباءة خوخية اللون في غاية الأبهة، أمام الحصان يوجد الدراويش، بالدفوف يرددون المدائح النبوية، يتعب الأطفال من طول اللف، يتسربون الواحد بعد الآخر.. أصر على الاستمرار.. أقاوم التعب وأقاوم، رغم ثقل أخي الذى أحمله:
- خذيه يا فتحية عني تعبت منه.
- هاتِ يا أختي.. لماذا أتيت به.؟!
- هو الذي "شبط"، خفت أمي تقول لي اقعدي.
يبدأ الولد في القلق، يصرخ على يد فتحية، يخمش وجهها:
-خذي يا زينب أخوك بهدلني.
أخذه منها أعيد ذرعه في وسطي، رغم بكائه وشده لشعري، أسرع خلف الموكب، أصرخ فيه:
- لماذا أتيت معى؟ كنت قعدت مع أمك.!!
لا يفهم ما أقول، يعبر عن ضيقه وجوعه، بضربي، يخمش وجهي:
- ولو.. لن أترك الزفة.
أنتظر هذا الموكب من السنة للسنة، لم يفتني ولا مرة منذ أن انتبهت مداركي، كل سنة أمشي وراء الزفة في ذهابها وإيابها، وهاهى عائدة يا "بوذ الإخص".. بدلا من الصراخ شاهد الزفة انظر عم قنديل مثل القمر، على من تبحث يا عم قنديل بحصانك الأبيض، على ست الحسن التي في حكايات أمي، كانت تقول إن الشاطر حسن يأتي بحصان أبيض ليخطف ست الحسن على حصانه ويطير!!
وجدتني أتلفت يمينا وشمالا أريد أن أرى ست الحسن التي سيخطفها عم قنديل أو التي ستخطفه هي مني، لم أجدها ترى ألا يراها غيرك يا شاطر قنديل.
ولكن عم قنديل لم يخطف أي واحدة، لا في هذا العام ولا الأعوام السابقة، ربما لم يجدها بعد، ربما ينتظرها حتى تكبر، حتى أكبر أنا، وأصير ست الحسن، ليتك تنتظرني يا عم قنديل.
- اسكت يا "نيلة"، ايقظتني من الحلم الجميل، اتفضل هذه أمك، خذي يامه بهدلني، وبهدل البنت فتحية، كسر وسطي، وشد شعري، "وقرفني آخر قرف".
أدخل وأندلق على أقرب كنبة، أنتظر حتى تهدأ ضربات قلبي، بعد قليل أنهض، أغسل وجهي، وأفتح الحلة، ألتقت أربع أصابع كفتة، تصرخ أمي:
- يا بنت انتظري أخواتك، واغرفي في طبق.
لا أرد تنتهي مهمتي، أغسل يديّ وفمي وأتسلل دون أن تلحظ خروجي، أتنهد حينما أراني خارج باب الشقة وأجري مسرعة إلى الصوان.. عم قنديل يجلس على كرسي قطيفة، حوله رجال يرتدون القفاطين، والعبيان، ويتعممون بشكل مميز ومتشابه، ألجأ إلى ركن الأولاد، من هنا أشاهد كل شيء بوضوح، أرى أبي وهو يدخل الصوان ويخطو نحو عم قنديل، يسلم عليه وعلى الشيوخ، يأخذ مكانه في المجلس، وتبدأ الأناشيد، وتبدأ أحلامي في الابحار.
«لما أكبر أجلس بجوار عم قنديل هنا في هذا المجلس، صحيح أنه لا توجد ولا واحدة ست داخل الصوان!! لا يهم أنا فقط سأكون، الست؛ ست الحسن وهو الشاطر حسن أو الشاطر قنديل لا فرق، سيقول هاتوا ست الحسن بجواري، ويفسح لي الجميع المكان، وأجلس مكان هذا الشيخ الملتصق به، ويجلس هو بعيدا»
- هيا يا أولاد على بيت مولانا قنديل الحلو، الست عوزاكم.
ينهض العيال صائحين:
- هييه، لقمة القاضي.. لقمة القاضي.
أنهض معهم متثاقلة، أريد أن أبقى هنا بجوار الشاطر، لا يصح أن أبقى وحدي، ألحق بالأولاد، على بيت عم قنديل، زوجته تجلس على بسطة السلم أمام باب شقتها، بجوارها نسوة كثيرات من بينهن أمي، تلمحني:
- جئتى يافالحة.. خذي أخوك.
أشيح بوجهي.. أرقب النسوة أمام وابور الجاز، يصنعن حلوى لقمة القاضي ويوزعن على الأولاد، أنظر إلى زوجته؛ نصف عجوز، يتصارع على وجهها ماء الشباب مع تجعيد الشيخوخة، فيهزم كل منهما الآخر مرة، سمينة، بيضاء جدا، طيبة جدا جدا، يحبها كل الأولاد يصيحون:
- هاتِ يا خالتي.. هاتِ يا خالتي.
أقف صامتة، تربت على كتفي.
- والله كبرت يازينب وصرتِ عروس.
تناولني الورقة عليها بضع حبات من لقمة القاضي، أخذها منها وأتفحص صاحبتها وأنا لا أستطيع تحديد مشاعري نحوها؛ هل هي غبطة، أم غيرة!!
 ذات المساء انتقل جمع من الرجال إلى بيتنا لأول مرة، أبي تبدلت ثيابه، هذه ناصع بياضها، الرجال يصلون على النبي ويدعون بالبركة للبيت وأهله، يضع الشاطر قنديل يده في يد أبي كالمصافحة، يقول كلمات وأبي يرددها بعده.. ثم يقول وحده:
«واستخرت الله العظيم، وغطيت رأسه في المجلس العام المحتوي على الأفاضل الكرام، وأذنته بافتتاح مجالس الذكر وإعطاء العهود على الوجه المعهود»
قام الرجال يهنئون أبي.. والنساء يزغردن.. قال أحدهم لأبي:
- لقد صرت ممن دخل في رحابها، وانتظم في سلسلة أهلها.
- ماذا يُفعل بأبي يا ناس؟
اقترب مني أحد الأفاضل الكرام وقال:
- يأخذ العهد على يد الشيخ قنديل الحلو، ربنا يجعلنا من بركاته.
قال الآخر قد استقامت أحواله، وظهرت أفضاله بأخذه وتلقينه.. وسيزف على الحصان مثل شيخه.
- هل يصلح أن آخذ العهد مثله.
نظر لي الشاطر قنديل من بعيد وأشار لي أن اقترب، فاقتربت وأنا أرتعد، وأشار لي أن أجلس بجواره، فجلست وأكاد أن يغشى علىَّ هل تتحقق الأمنيات هكذا سريعا، مد يده يصافحني، فمددت يدي المرتجفة، والناس يهللون:
- ما شاء الله ما شاء الله.. شيختنا الصغيرة.
- ما هذا الفتح العظيم يا أبا زينب!!
- الشيخ قنديل مكشوف عنه الحجاب.
 كان الشيخ قنديل يقول كلمات يقف ترديدها في حلقي من جفافه، ولما زاد ارتعاش جسدي اقترب بجسمه ليهديء من روعي، الغريب أنني وجدت جسده هو الآخر يرتجف، أخذ يمسح جسدي بيديه ويقول كلمات لا أتبينها، وعندما لامست يده أسفل ظهري واستقرت مكانها، لا أدري كيف انتفضت واقفة وصفعته على وجهه أمام الجميع، وحينها سكن ارتجاف جسدي.
 (حواء- 23/ فبراير/ 2013)
 (موقع القصة العربية- 17/2/2016)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق