غداء فاخر جدا
ألقيتُ بحقيبتي فوق المكتب.. ارتميتُ على المقعد
وأنا أنفخ:
"ما العمل يا ربي مع هذه الميزانية الشاطحة..
ليتها ميزانية بلد، لكنها ميزانية أسرة في غاية التواضع والرضا؟!".
أمضيت
وقتي في العمل أحسب بالورقة والقلم، أجمع، وأطرح، وأضرب.. والعملية لا تنضبط على
الإطلاق.
أرسل
المدير في طلبي عدة مرات يستعجل الأوراق المتأخِرة، والتي تسبِّب انشغال مخِّي في
عدم إنجازها.. اعتذرت له وطلبت منه مهلة إلى الغد.. لم يتضايق فهو يعلم اجتهادي
وحرصي على العمل، لكن الزميل السماوي الذي يكره عمل المرأة ويراها خادمة في بيتها
أو بيت غيرها ليس إلا، أطلق سُمَّه في عبارته الأثيرة ويتلذذ بترديدها:
- الله يلعنك يا قاسم أمين.
سمعت
سخطه على الرجل كثيرا ولم أردَّ غيبته.. أعلم نيَّة الزميل السماوي، ودائما أفوِّت
عليه الفرصة، فهو يريد أن يدخلني في جدل عقيم يثبت فيه وجهة نظره الصائبة في عدم
جدوى عمل المرأة، وأنها لا تفلح في أي شيء إلا في بيتها و.. و..
هذه
المرة لم أطق صبرا.. سألته في استنكار:
- لماذا تدعو على الرجل؟!
انتشى
كمن حقق سبقا.. وقال:
- هو السبب في خروج النساء ومزاحمة الرجال في كل
مكان.
اندفعت
بحرقة المطحونة من هذا الخروج:
- معك حق.. الله يلعنك يا قاسم أمين؛ لقد جعل الرجال
يتمطعون على حساب النساء، ينامون في البيوت، ويتمنون لو يُرضعون هم الأطفال!!
شعر
السماوي بمدى غيظي، وأنني لن أحقق بغيته في جدل يرضيه، فلن أنبري للدفاع عن عمل
المرأة، وتحقيق ذاتها كما يريد، فيجدها فرصة لإظهار المساوئ التي نتجت عن ذلك، من
زحام في المواصلات، وضياع للأولاد، وانتشار للبطالة، وفوق هذا كله استرجال المرأة
وشعورها بالاستغناء عن الرجل، مما كان السبب في فشل كثير من الزيجات وزيادة نسبة
الطلاق و.. و..
ولما
كان ردِّي مخيِّبًا لظنه وأنني بدأت بالهجوم على جنس الرجال، وفي سبيلي لإظهار
عيوبهم التي اكتسبوها من اعتمادهم على المرأة، ابتداء من راتبها، ومتابعتها
للأولاد في المدارس، والمذاكرة لهم، إلي التفكير في كسوتهم، وإطعامهم، وكيف أن
الرجل استمرأ الراحة ما دام هناك من تقوم بالدورين.
قرأ
الزميل ما يدور في رأسي من تنمُّر عيني فآثر الابتعاد وهو يردِّد:
- يا ستِّير يا رب إنها على آخرها.
حسنًا
فعل.. عدت إلى حساباتي التي تجلب لي الصداع.. فمنذ أن قيدت أكثر راتبي في الإجراء
الاجتماعي الذي يسمى الجمعيات الشهرية، ذلك المشروع الذي يحرمك من الشيكولاتة
والأيس كريم، وحتى عصير القصب واللبِّ، وكل ما هو زائد عن الضروري في مقابل أن
تقتطع جزءًا من راتبك شهريًّا.. فإذا جاء دورك وتسلمت مبلغا لا بأس به قد يتيح لك
تحقيق هدف معيَّن، فأنت به على موعد لشراء سلعة معمرة، أو تجديد فرش، وهذا في
الحالات العادية، لكن هناك حالات أكثر رخاء ورفاهية وهي أن تجعل حصولك على هذا
المال للإجازة الصيفية لكي تمضي إجازة سعيدة مع أسرتك.
ولما
كنت من فريق المطحونين في الأرض فموعدي دائما مع بداية عام دراسي؛ لدفع مصاريف
المدارس، والمعاهد، وشراء لوازمهما؛ لذلك فأنا مرتبطة طوال الوقت بهذا النظام
الاجتماعي بدون تخلف.
مشروعي يحتاج إلى أموال متدفقة ومتلاحقة، وهو
تعليم الأولاد، وهو أيضا مشروع لا ربح له.. استهلاكي من الدرجة الأولى.
وبالنسبة
لي فإن ما ينفق من مال على تعليم الأولاد، هو إنفاق بلا طائل؛ لأنهم غير مجتهدين
في دراستهم؛ مما يجعلهم لا يكتفون بالاستهلاك المادي فقط، بل باستهلاك الأعصاب
أيضا.. أعصابي أنا على وجه الخصوص، فهو استهلاك تام لآخر مليم، وآخر قطرة من دمائي
النقية وتحويلها كلها إلى دماء عكرة.
أصبِّر
نفسي بأنني أفعل ما يمليه على ضميري وواجبي معذرة لله عند السؤال.
دقَّقت النظر في الورقة في محاولة عقيمة لتجنُّب
هذا الفلَس الذي ظهرت آثاره جلية هذه الأيام، وأثَّر على مستوى التغذية، والخدمة
والنظافة في البيت، وكذلك ألغى بند الترفيه بالكامل، فمنذ أن خلا جيبي من المال
اكتشفت أن راتب رب أسرتي لا حول له ولا قوة وحده.
تنهدت..
منذ متى لم أتوقف عند هذه الحقيقة وهي أن دخلي هو الذي يقوم بكل العبء؟!
كانت
الأيام تمر بسلام.. الذي معه يدفع ولا فرق.. والأولاد تكبر جسديًّا أسرع من أي شيء
آخر مما أسرع بظهور الفجوة، فنموُّ أجسادهم مع التعثر في الدراسة يضاعف المصروفات،
ويضاعف الجهد ويضاعف أيضا القلق.
اكتشفت الآن أن سلسلة المضاعفات تقع على عاتقي
وحدي، ووحدي من يفكر دائما في سد العجز بالجمعيات، أو بالاقتراض، وشريكي في
الأولاد لا يرهق نفسه لا بالبحث ولا بالتفكير.. والآن ماذا أفعل، بلغ السيل
الزبى؟!
لقد
تأخرت عن تسديد المصروفات الدراسية.. وتأخرت عن دفع ثمن فاتورة الكهرباء.. يأتي
المحصل مرة وراء مرة مهددا بقطع التيار.
وتعوُّد
الأولاد على طلب ما يحتاجونه مني مما زادني ضغطا على أعصابي، وزاده راحة.
في
السابق كنت أستجيب على الفور، إذ كانت النقود متوفرة، والقدرة على التصرف وتدبير
أموري مستطاع.. أما الآن فليس أمامي غير شريك العمر:
- يدك معنا يا رجل.
والرجل
الذي يردد طوال الوقت أن الحياة تعاون، واليد الواحدة لا تصفِّق، يطلق اليوم شعارا
جديدا:
- لا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها.. هذا راتبي، ولا
أخفي عنكم شيئا.
أحيانا
يستطرد:
- قلت لك مائة مرة: أنت تنفخين في قربة مقطوعة.. الذي
لا يفلح في التعليم يذهب بعيدا عنا ويتعلم صنعة.. تعيدين له سنة وراء سنة ولا
فائدة، أريحي نفسك.
منطقه
اللا مبالي بالتعليم.. يزيد أعصابي التهابًا، وعجزي عن تلبية ضروريات أولادي
المتمثِّل في تغذيتهم التغذية السليمة يربك تفكيري.. لكنه والحق يقال أصبح لا يدقق
فيما يقدم له من طعام.. يأكل صامتا راضيا حامدا ربه حتى لا يثيرني أو يجعل الأولاد
يتمردون، خاصة وهو يراهم يتأففون في صمت ويتبادلون التعليقات في همس:
يقول
الولد:
-
إلى متى يظل هذا الحال؟!
يرد أبوه:
- اللهم أدمها نعمة واحفظها من الزوال.
-
أما زلت تحسبين؟!
ارتعدت
كل مفاصلي وخرجت من تفكيري على صوت الزميل السماوي الذي يتابعني بشماتة.. أكمل
استخفافه:
- دقَّت ساعة الانصراف يا مدام كما وضعها
قاسم أمين بالتمام.
تصنعت
الابتسام.. فقال:
- مزاحك اليوم مميت!!
في الشارع غلب على تفكيري..
ماذا يأكل الأولاد اليوم.. لابد أن يتغذى هؤلاء الشباب حتى لا يؤثِّر على صحتهم في
المستقبل.. قررت أن أبيع السوار الوحيد الذي تبقى من مصاغي؛ لأمتِّعهم بثمنه لعدة
أيام حتى يفرجها الله من حيث لا نحتسب.
كنت
أصبِّر نفسي بهذا القول وأنا أتنقل من صائغ إلى آخر، رافضة ما يعرضونه على من سعر،
فإن كان ولابد من فقدي لهذا السوار الغالي علي- ذكرى المرحومة أمي- فلن أقبل
بمحاولات الابتزاز وأبيعه بالبخس.
قلت
لأحدهم:
-
إما أنك لص أو لا تعرف قيمة هذا السوار؟
تبسَّم
الرجل في خبث.. وقال:
- أنت تعرفين قيمته المعنوية وأنا أعرف قيمته
المادية.. ولا قيمة لشيء يباع.
انتزعته
من يده غاضبة، واندفعت خارجة من المحل.. زكمت أنفي رائحة الكباب المنبعثة من المحل
المقابل.. تسمَّرت في مكاني مترددة:
- هل أرجع للصائغ وأقبل بالسعر أو أواصل السعي
حتى أحصل على سعر أعلى؟!!
كانت عيناي تدوران في محل الكباب تبحثان عن
قائمة الأسعار، فإذا بهما تستقران على شخص يتناول غداءه في تنعُّم وتلذذ، زاد
اتساع عينيَّ.. لم أصدقهما.. أهذا هو؟
لكنهما
تؤكدان لي.. نعم هو.. شريك الحياة.. أبو الأولاد!!
مشت
قدماي حيث قادتهما العينان.. وقفت أغالب دهشتي.. أتفحَّص ما أمامه من صنوف الطعام،
وأغلاها.
رفع
رأسه فسقطت الشوكة والسكين من يديه.. همَّ بالكلام فلم يخرج صوته، همَّ بالوقوف
فربَّتُّ على كتفه.. أن يلزم مكانه.. ثم ناديت:
-
جرسون.
أتي
العامل مسرعا.
- تحت أمرك يا سيدتي.
- بعدما ينتهي البيه من غدائه جهِّز له وجبة
مماثلة تماما بعدد الأولاد.
ثم
ربتُّ على كتفه.. قائلة:
- ليتها تصل ساخنة.
(مجلة حواء –9
يوليو 2005)
(موقع القصة العربية- 14 يونيو2007)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق