الخميس، 16 نوفمبر 2017

عصفور العسل



عصفور العسل

 وقفتْ مبهورة أمام فاترينة الزهور.. ولسان حالها يردِّد:
 "سبحان الله.. ما أروعه من بوكيه.. لم أر في حياتي مثل هذا الورد لونًا وتنسيقًا.. أما زال في الكون جمال لا نعرف عنه شيئًا، هذا يا ربي في الدنيا، هذا عين رأت، فكيف بالجنة وما فيها، حتى العصفور الذي ينقر من رحيق الزهر كأنه حقيقي، كأنه يتحرَّك".
 من خلف الزجاج كان يراقبها عامل المحل.. تابع انبهارها، ثم خرج لها في الوقت المناسب.
- هذا البوكيه سينيه؛ يعني وحيد.. صنعه أشهر منسِّقي الورود في اليابان.. وروده نادرة مجمَّعة من عدَّة بلاد، ومجففة بطريقة التحنيط عند الفراعنة، حتى صار كما تَرَيْنَ تحفة ما مثلها.. اشتراه صاحب المحل بالمزاد وكان ينافس عليه كثير من هواة الزهور في العالم.
كانت تستمع إليه بانبهار كبير ودهشة أكثر.. وقالت:
- صراحة لا أستطيع وصفه، إنه أكثر من رائع.. لابد أنه دفع فيه مبلغا كبيرا.!!
- ليس كبيرا جدًّا.. ثلاثة آلاف فقط، على كل حال صاحب المحل قرَّر ألا يبيعه إلا بثمنه؛ لذلك قال:
- دعه يزين المحل ليجذب العيون؛ فلن يقدره أو يقدر على ثمنه أحد.. لكن يبدو أن لك ذوقًا رفيعًا.
- وما قصة العصفور هذا الذي ينقر في قلب الزهرة.. أخاله يتحرَّك.
ضحك العامل.. وقال:
- هو لا ينقر.. هو يشرب من رحيقها، ولو نظرت من خلفه سترين، كأنه يخرج لنا عسلاً مصفَّى، تفضَّلي.. تفضَّلي بالداخل لترَيْ صدق كلامي.
دخلت المحل ورأت ما لا يصدَّق، العصفور منقاره يشرب من زهرة ويخرج منه عسلاً في قلب زهرة أخرى.. قالت:
- هل هذا خداع بصريٌّ.. إنني مذهولة من المنظر.
ضحك الشاب، وقال:
- أقول لك السر، هو يضع في قلب الورد موتورًا صغيرًا يحدث ذبذبة تمنح الحياة.
فعلا هذا الصانع بارع جدًّا لم ينس شيئًا، يبدو أنه أراد أن يفعل شيئا مكتملاً.. ولكن كيف عرفت كل هذه المعلومات؟!
- مع البوكيه كتالوج يشرح معاناة الصانع وخطوات العمل.
- زادت دهشتها وظلَّت فترة تنظر للورد ورعشة العصفور، ثم جَذَبها الفضول لتمدَّ يدها وتلمس الوردة وتربِّت على ظهر العصفور، وما كادت يدها تمتدُّ حتى اصطدمت بشيء أطاح بها نحو العصفور فأطاحته، وتناثرت بعض الوريقات هنا وهناك..
شهق العامل وأمسك فمه واتَّسعت عيناه ذعرًا، فاستدارت نحوه بعيون متسائلة ما العمل؟!! ثم تمكّن صوتها من الخروج فقالت:
- أيمكنك إصلاحه.
- كيف أصلحه.. لقد تسبَّبتِ في قطع عيشي.. بل بسجني.. من أين لي بدفع ثمنه، أنا العامل البسيط الغلبان صاحب العيال.. ما العمل يا ربي في هذه المصيبة.. لقد أخطأت حين أدخلتك المحل وظللت أشرح لك.. لما رأيتك منبهرة بالبوكيه أردت أن أزيد فرحتك من طيبة قلبي، فكان جزائي السجن والتشرُّد والجوع أنا وعيالي.. يا للمصيبة الكبرى.
- هوِّن عليك، يمكنني دفع الثلاثة آلاف جنيه وأخذ البوكيه، فهو ما زال رائعًا.
- جنيه.؟!! من قال ثلاث آلاف جنيه؟
- أنت.
- يبدو أنني أخطأت.. قصدت ثلاثة آلاف دولار.
- يا خبر! إنه مبلغ كبير لا يمكنني دفعه.
نظر العامل إلى يدها ورقبتها وقال:
- كم تساوي هذه الأسورة وذلك العقد:
شهقت:
- الأسورة.. العقد.. إنهما شبكتي ولا يمكنني التفريط فيهما.
- لم أقصد بيعهما.. دعيهما رهنًا حتى تحضري المبلغ.. هذا إذا كنت لا تريدين تشريد أطفالي وقفل بيتي.
تملَّكتها الحيرة:
 "ماذا أفعل.. الولد مؤدَّب ويتكلم حتى الآن بالحسني بل ويستدرُّ عطفي.. من أدراني بردِّ فعله إذا رفضتُ طلبه، ربما يهينني ويطلب لي البوليس، وربما يدَّعي بأنني أفسدته البوكيه متعمدة".
 لم تجد بدًّا من خلع العقد من رقبتها ونزع الأسورة من يدها.. وقبل أن تناولهما له قالت:
- من أدراني أنك ستردُّهما لي؟
- أكتب لك إيصالاً بمواصفاتهما.. وهل يعقل أن أتصرف بنذالة بعد أن حميتِ بيتي من الضياع.
أخذ الذهب وناولها البوكيه مع وصاياه لها:
حافظي عليه، يجب ألا يصطدم بأي شيء، فكما رأيت ينفرط سريعا باللمس.
هزّت رأسها واستدارت حاضنة البوكيه، ودمعة معلّقة في عينيها، ما أن ابتعدت قليلا حتى سقطت وانهمرت.
 نظرت للبوكيه في يدها فلم تجده بذلك الجمال الأخاذ الذي كان عليه، هو ورد مجفَّف لوَّنه صانعه بألوان مبتكرة ووضع فيه حيلة تخدع البصر قبل أن تسرَّه، يا له الإنسان من فضولي قميء.. ليتني ما دخلت المحل، ليتني لم أقف أمام الفاترينة أصلا، ألم أقل في الصباح: اللهم اكفني شر هذا اليوم وشر ما فيه.
كادت تسقط على وجهها مصطدمة بأقفاص نشرت عليها جرائد اليوم وجلست خلفها امرأة بدينة تبيعها.. نظرت لها المرأة وقالت:
- الحمد لله لم تقعي.
- بل وقعت يا خالة.
أدركت المرأة أن الفتاة في كرب وأكد لها ذلك اغروراق عينيها.. فقالت:
- (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) يا ابنتي.
- يبدو أنك حكيمة يا خالة.
- الزمن يعلّم الناس.. قد يفاديك الله ببعض المال من شر كبير.. ربنا يسلِّم طريقك يا ابنتي.. ما هذا الورد الجميل الذي معك؟
نظرت الفتاة للورد مليًّا وقالت:
- هذا الذي افتداني به الله من شر كبير.. خذيه يا خالة.
- ماذا أفعل به يا ابنتي؟ ما لنا وللورد؟!
- خذيه.. أنا لا أريده.
تركت لها البوكيه وانصرفت.. ابتسمت المرأة ومدّت يدها تخرج الورد عودًا عودًا وتخبط به على الجرائد فتنفرط أوراقه وتتطاير متناثرة حولها.. شاهدت الفتاة المشهد من بعيد.. مسحت عينيها وضحكت.
(القاهرة: 19/ 2/ 2016)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق