إنهم يحيرون الأطفال
أنا لبنى.. الطفلة التي
تستجدي أمها ركاب الطائرة الذاهبة إلى بلدي لكي يربيني أحدهم ساعتين من الزمان مدة
إقلاع الطائرة.. أخيرا وافق أحد الركاب متجهمًا أن يقبل بهذه المَهمَّة الشاقة،
أعلن موافقته في كلمات مقتضبة:
- لا
مشكلة.. هاتيها.
وقفت أمي تودِّعني وتلوح لي ودموعها تملأ وجهها ولكنها بالتأكيد مستأنسة باليد التي تربت على كتفيها.. يد زوجها الذي أخذها مني إلى بلد آخر، مما جعلها تتركني في رعاية جدي.
أنا لا أعرف شعوري بالضبط نحو هذا الرجل الذي دائما يشير على أمي أن تبعدني، ولكن لم يحدث أنه نهرني يوما.
أسندت رأسي إلى حافة النافذة أعاتب
أبي لماذا تركني أتنقل وحيدة بين جدِّي وأمي.. أمي في الأجازة وجدي في الدراسة..
ماذا فعلت يا أبي لكي يأخذك الله ولم يتركك لنا حتى أكبر؟
أمي اشترت لي من البلد الغريب
عروسًا جميلة ترقد الآن في صمت على ساقي، وقالت لي:
- دائما افعلى مثل عروستك.. عروستي
لا تفعل شيئا سوى الصمت فهي لا تتحرّك من المكان الذي أضعها فيه، حتى وإن أنمتها
على ساقي فلن تستيقظ إلا إذا أيقظتها أنا.. هل تريد أمي ألا أتحرك ولا أتكلم إلا
إذا حركني أحد؟!!
هي بالتأكيد تريد ذلك؛ ولذلك أكملت جملتها بقولها:
- حتى لا يغضب منك أحد.
فعلا أنا لا أغضب من عروستي رغم سكونها وسكوتها.
أيقظني الرجل الذي لا أعرف اسمه ولا
يعرف اسمي لكي أتناول معه طعام الطائرة.. فتشت في ذهني بماذا نصحتني أمي في هذا
الموقف.. ابتسم الرجل وقال في حنان:
- لابد أن تأكلي لكي تكبري.. نظرت
إليه في حيرة كيف تبدّلت ملامحه وصار مسرورا.؟!
يبدو أنه فرحٌ بعودته إلى أهله!! أنا أيضا فرحة بذهابي إلى جدي
فقد أوحشني كثيرا، هل لهذا الرجل ابنة في مثل سني.. لن أسأله فعروستي لا تسأل
الرجل مد يده بالطعام إلى فمي وقال:
- سأحكي لك (حدوتة) وأخذ يحكي قصة
سمعتها كثيرا من جدي.. لن أقاطعه فعروستي لا تقاطع.
في صالة المطار نسيت الرجل الذي
تسلمني من أمي متجهم الوجه، وجريت وارتميت في حِضن جدي الذي احتضنني وهو يبكي
ويقول:
كنت خائفًا عليك يا حبيبتي.. هنا
تذكرت عمو الذي أطعمني وحكى لي قصة فالتفت إليه وجدته هو الآخر يمسح دمعة خفيفة،
صممت أن أدعوه إلى بيتنا وأقول له:
- أنا أحبك يا عمو، لكن لماذا كنت
غاضبا في البداية.؟!!
ضحك بصوتٍ عالٍ وربت
على خدي:
جدي لم يغضب مني لأني أثرثر كثيرا
وأتصرف دون إذنه، نظرت إلى عروستي فوجدتها تهز رأسها لي بالموافقة.
(جريدة تواصل- العددالتاسع- فبراير 2014)
******************************************************************
ألقاب وأوسمة
ما أسعدني.. لقد
سعدت بحياتي، حلوها ومرِّها.. هي الآن كلها جميلة، وذكرياتها تدعو للبسمة.. فلقد
حصلت على جميع الألقاب التي يمكن أن تحصل عليها عدة إناث.
تزوجت متأخرة..
بعدما تمتّعت فترة لا بأس بها بلقب "عانس" في تبادل مع لقب آنسة.. آنسة
في الوجه على سبيل التفضل، أما عانس فكنت أسمعه همسا مشفوعا بمصمصة شفاه البعض
وتعجُّب البعض.. فلا ينقصني شيء لأحصل على زوج محترم ومرموق، لكنه النصيب.
المهم
أنني خلعت هذا اللقب للأبد حين تسلمت قسيمة الزواج، وتمتعت بلقب "زوجة"
مع بعض الهمس والغمز.. من قبيل:
(الحمد لله لحقت بقطار الزواج في السبنسة)
لم يدم لقب زوجة كثيرا، رغم تحمُّلي لسوء خلقه وصبري على
فظاظته، وحرصي على عدم الانفصال، ومع ذلك منحني لقب "مطلَّقة" بلا شفقة
ولا تروي.
حين تسلمت قسيمة طلاقي، وعرف الناس بالخبر عادت مصمصات
الشفاه مع جملة:
( لو فيها خير ما رماها الطير)
عشت مع لقب مطلقة مدة لا بأس بها، وكنت في هذه المدة
ورغم قسوة اللقب الذي ذكَّرني بلقب عانس من قبل، وبرغم الهمز واللمز تروَّيت في
الارتباط من جديد.. فرغم كثرة من تقدموا لخطبتي فإنني صممت على عدم تكرار الفشل،
الذي كان بسبب تعجلي في الارتباط.
وجاء الزوج
الجديد كما وصفته الخنساء (طويل النجاد رفيع العماد) وعدت للقب
زوجة، وهو لقب له سحر وجمال، ويحمل أمانًا وضمانا ومستقبلا..
وعشت
في كنف رجل كريم محب ذكي طويل النجاد لكنه كان قصير العمر.. وحملت لقب
"أرملة" وهو لقب يستدر عطف الناس غالبا، ولكنه معي له شأن آخر، فكان
يجلب لي نظرات التشفي والحسرة مع وصفي بالمنحوسة أكثر الأحيان.
ولم يكن نحسًا كاملا فقبل رحيله كان قد أعلى حرثه وبذر بذره وترك لي نبتة الولد، ظل
ينمو جنينه في بطني شيئا فشيئا ليمنحني بعد أشهر قليلة من رحيل والده لقبًا
تتمنَّاه كل أنثى، لقب "أم".
عشت بعده أمًّا وأبًا وصديقة لابني وابن رفيع العماد..
أسعد بارتفاع هامته أمام عيني يوما بعد يوم، وبانتقاله من مرحلة دراسية إلى مرحلة
أخرى حتى تخرج في كلية مرموقة وجاءني يزف خبر نجاحه وفي يده زميلته التي اختارها
لتشاركه حياته.
لم أستطع ولم أرغب أمام إلحاحه أن أَثنيَه وأقطف فرحته،
لابد من إتمامها.
تزوج ابني وسعد في حياته، وحملت لقب حماة رغم أنني كنت
أمًّا مثالية ثانية لها.
واليوم كنا في هرج ومرج طوال اليوم في المستشفى مع زوجته
التي منحتني لقب "جدة".
عدنا بها
وبحفيدي الذي يشبه جده.. وهما الآن يغطَّان في نوم عميق، وابني بالخارج يشتري
احتياجات المولود وأمه.. وجلست أنا في الشرفة أنظر للسماء البعيدة، أشكر الله على
نعمته وعلى رحلتي بحلوها ومرِّها، هي الآن في داخلي ذكرى جميلة، تذكرت الأحداث
البعيدة والقريبة في حياتي، وأتخيل الألقاب التي حصلت عليها كأنها ورود تزين
حياتي، حتى القاسي منها أشعر به الآن لذيذا، وأبتسم من بعض السذاجات التي مررت بها
وتوقفت عندها معتقدة أن الحياة لن تمضي.
اليوم فقط أرى
تلك الألقاب أوسمة تزينني، وأحمد الله على ما متّعني به من صبر، وكافأني به من
خير، ووجدتني أدوِّن ما سوف تقرؤونه فيما بعد، عندما أحصل على اللقب الأخير
وتقولون على أثره:
- رحمها الله!
(جريدة تواصل- العددالتاسع- فبراير 2014)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق