الخميس، 23 نوفمبر 2017

أنا.. هبَّة الذكرى



 أنا..
هبَّة الذكرى

 لا أدري لماذا هبّت هذه الذكرى الآن بعد مرور عشرين سنة على وفاته؟! نعم وفاته؛ زميل الجامعة.. أعز الزملاء.. من ناحيتي لم يزد عن صديق، أثق به وأستمتع بالحديث معه الذي هو أقرب للاتفاق في كل شيء، فهو شاعر حساس وأنا شاعرة رومانسية.. كنا نلقي الشعر في الندوة الأسبوعية بالكلية، وكان له رأي في شعري ولي رأي في شعره؛ واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.. 

كان بعد أن نتدارس الشعر معًا ونراجع بعض المحاضرات معًا، يمدُّني بأخبار الكلية، وهذه المعلومات لم أكن أعرفها إلا منه:
- هذه الفتاة تحب ذلك الشاب، الدكتور فلان على علاقة بالزميلة فلانه، هذه البنت من أسرة طيبة وعريقة أما تلك فمن حثالة البشر.. أسأله:
- كيف تعرف هذه الأخبار؟!! فيقول:
كل الكلية تعرف هذه الأخبار وتتداولها، أنتِ فقط نائمة على أذنَيْك.. فأقول:
- ولكنك جعلت كل البنات لهن علاقات بالشباب، وهذا غير معقول، فيقول:
- أنت أطهر بنت في هذه الدفعة.
حتى لو أسعدتْني هذه الجملة إلا أنني أظل في عدم تصديق لما يقول.

كنا مجموعة بنات وشباب على علاقة طيبة نتعاون في تقديم الخدمات لبعضنا البعض؛ ولأنني من القاهرة وأقطن قريبة من الكلية عليَّ مَهمَّة معرفة النتيجة وإرسالها بخطابات مسجلة لزملاء الأرياف.

 مرَّ العام الدراسي الأول الذي يكون فيه الطلاب أكثر انتباهًا لما يدور حولهم، تعرّفنا على بعضنا البعض وتعرفنا على أساتذتنا، ومنهم من كنا نعرفهم من وسائل الإعلام قبل أن ندخل الكلية ونلتقي بهم وجهًا لوجه.
وجاء العام الدراسي الثاني وتقدّم لخطبتي من وافقتُ عليه، وهنا فوجئت بزميلي المقرَّب غاضبًا يرفض هذا الخطيب بشدَّة ويحرِّضني على الرفض بحجة أنك مازلت تدرسين وعليك الانتظار حتى التخرج، سيأتي حينها من هو أفضل منه و.. و.. ولم أقتنع، ولمّا وجدني متمسكة به غضب مني وخاصمني، ثم عرفت من زميل أخر أنه يحبُّني وكان ينوي التقدُّم لخطبتي بعد التخرج.
يعزُّ عليَّ خصامه ولكني أبدا ما تخيّلته زوجًا.

 مساعي الزملاء كلِّلت بالنجاح في إزالة الجليد بيننا، والحمد لله استطاع أن يؤقلم نفسه على تقبل الأمر، وإن ظلت مشاعره ملتهبة، وظلت مشاعري نحوه عادية حتى بعد معرفتي بنيته تلك. 

 ومضيت في إتمام عقد قراني مع احتفاظي بالزميل الصديق الذي تقبل الأمر وأرسل لي تهنئة عبر الأثير وأغنية؛ «القلب يعشق كل جميل»..
سمعتها في الإذاعة مع ذكر اسمي.
 كنت أظن أنه نسي وصار يعاملني كزميلة مقرّبة، ولكن للأسف وجدته حزينا يذبل يوما بعد يوم، وكان يخفي حزنه كلما رآني ويتصنع الضحك والمرح، ويحاول أن يكون طبيعيًّا.
وتأكدت من ذلك من قلة مشاركاته في المحاضرات كما كان. 

اقترب العام الثالث على الانتهاء وكنت أفكر في التقدير الذي حصل عليه في نهاية العامين السابقين، وأنه بالتأكيد لن يصل إليه هذا العام لما يشعر به من إحباط.

 فكرت كثيرا كيف أخرجه من هذه الحالة دون أن يظن خطأ بتحول مشاعري نحوه، كيف أبث فيه الأمل، وأعطيه دافعًا على التفوُّق، كيف أساعده؟! بل يجب أن أساعده؟

 تحركت بداخلي صفة المبدعة وشقاوة الشاعرة، وعرفت أن إخراجه من حالة الكآبة التي سيطرت عليه وبعث الأمل فيه لا يكون إلا بحب جديد.

جلستُ مع نفسي وأمامي أوراقي التي تعودت أن أكتب فيها قصصي وأشعاري وبدأت أخط له خطابا.
عزيزي فلان:
«أنا فتاة في الصف الأول بالكلية، رأيتك تلقي الشعر في ندوة الكلية فشعرت بقلبي يخفق بشدة، وبمشاعري تتحرك نحوك.. شعرت أن كلمات القصيدة موجهة لي وحدي.. لم أنم ليلتها حتى كتبت لك هذا الخطاب.

شاعري الجميل:
أولا يجب أن تعرف أنني على قدر من الجمال والرقة، إذا كنت غير مرتبط بأخرى وليس عندك ما يمنع من أن نلتقي ربما ينمو بيننا شيء جميل، إذا رغبت فضع علامة صح على لوحة الإعلانات الموجودة بوسط الكلية، إذا رأيتُ أنا العلامة فسأرد عليك بمثلها.. سأنتظر منك الرد.. إلى اللقاء».

 وضعتُ الخطاب بصندوق الخطابات بالكلية وشاهدت من بعيد مسئول الخطابات وهو يسلمه إليه، ثم أخذت أراقب اللوح الأسود الذي يجب أن يضع عليه علامة صح بالطباشير، ولكن ما حدث فاجأني وما كان يخطر على بالي.

 جاءني بالخطاب متهللا.. يريني إياه سعيدا به.. فقرأته بناء عن رغبته فقال وهو يلهث:
- ما رأيكِ؟!
- المهم رأيك أنت.
- رأيي إنها إنسانة جميلة وراقية، رومانسية كما أريد، سأضع لها العلامة.
- هذا شأنك.

وضع العلامة على اللوح ووقف يراقب كل بنت تقترب منه.. لكنها لم تأتِ، فانتظر اليوم الثاني والثالث حتى بدأ اليأس يتسرب إليه ولكنه فوجئ بخطاب آخر.

«شاعري الجميل:
فرحت جدا باستجابتك لدعوتي وكان يجب أن أرد عليها لكني وجدتك لا تفارق اللوح ولا تحضر محاضراتك وهذا آلمني جدا على عكس ما توسمت فيك من رزانة وطموح، ماذا يفيدك أن تقبض عليَّ متلبسة؟ أرجو أن تعطي فرصة للخيال يأخذ وقته، وألا تخيب أملي فيك.. سأحضر ندوة الشعر القادمة وسأحاول من العام القادم أن أشارك بها، أيسعدك أنني الأخرى أكتب خواطري!!
سلام يا أعز إنسان.. لا تنس أن تضع علامة صح».

 طار فرحا بالخطاب الثاني وجاءني به.. جلس بجواري بعد انتهاء المحاضرة يقرأ لي الخطاب وكأنه يقرأ قصيدة شعر عاطفية شجية، يتأمل الحروف ويحلل الكلمات ويتأمل الخط الذي هو خط أختي، فيخرج من هذا بانطباع عميق، بأنها بنت رقيقة جدًّا وشفّافة بل هى نوع نادر من البنات، وأنها تحبه جدًّا وتحرص على مستقبله.. ثم يتوقع أنها ستعجبه جدًّا شكلا كما أعجبته روحًا، وأنه سيسعد بها وأنها بالفعل فتاة أحلامه، ويتوقع أيضا أنها تشبهني في كثير من الصفات وربما في الشكل أيضا.

 لم أُدهش للتقريب بيني وبينها ولكن دُهشت لمشاعر الإنسان.. كيف تتحول بهذه السرعة.. كان غاضبا لزواجي والآن يعجب بفتاة مجهولة لمجرد أنها أعلنت إعجابها به!! حتى وإن كان يبحث عن بديل مشابه!!

 طردت أفكاري سريعا؛ ربما يكون فيها ما لا تحمد عقباه، وقلت إن الأمر طبيعي ربما يكون غريقا ووجد قشة يتشبث بها، ثم إن حالة الانتشاء التي تتملكه هذه كانت الهدفَ من رسائلي.. فما الذي يغضبني؟!

وجلس بجانبي يقرأ الخطاب الثالث:
«آسفة يا عزيزي لم أحضر الندوة الفائتة، خفت من وجيب قلبي أن يفضحني، كنت مضطربة قلقة وكان قلبي يسرع في دقاته فلم أتمالك نفسي تسمّرت عند باب الحجرة وأسرعت هاربة.. ظللت أبتعد وأبتعد حتى سكن قلبي وأعلن استقراره في الفؤاد.. الآن أعترف لك.. إنني أحبك ثم أحبك.. اكتب علامة صح».

زادت سعادته بالخطاب الثالث، والتفت نحوي منتشيًا وقال:
- أتمنى أن أراها.. ماذ أفعل؟.. قلت:
- ما عليك إلا الانتظار.. وربما لا يعجبك شكلها.. قال:
- كيف وهذه روحها، وهذا أسلوبها.. لابد أن تكون ذات وجه جميل.
- هي اعترفت بحبها لك، فهل أحببتها؟

قال على الفور:
- نعم.. نعم أحببتها جدًّا.
- وأخلاقها التي لم تعرف عنها شيئًا.. أتعجبك البنت التي تراسل شابًّا وتشغله بها هكذا؟
فكر قليلا وقال:
- ها أنت تجيبين على نفسك.. لو كانت كما تظنين لأتت وكلمتني مباشرة، لكنها رقيقة مهذبة محرجة فتبثُّ مشاعرها على الورق.

- وإلى متى يستمر هذا الحال؟
- إلى أن تستطيع أن تجعلني أراها.
- وماذا ستفعل عندها؟
- سأعوضها عن أيام القلق الذي سبَّبتُه لها.
- لكنها لم تضع لك علامة صح واحدة حتى الآن.. فماذا تظن؟
- خائفة أن أراها.

 في اليوم التالي جئت مبكرة جدًّا عن موعد المحاضرة الأولى، وبمجرد وصولي إلى اللوح الأسود ورأيت علامة الصح التي سجلها بالأمس، في لمح البصر كنت قد وضعت علامة مماثلة بجوارها، وأسرعت إلى المحاضرة.. بعد وقت وجدته يسرع نحوي حتى كاد أن يقع على وجهه ويقول لي بصوت متقطع:
- رأيتِ العلامة؟!!

بهدوء مصطنع:
- أية علامة؟
- لقد علّمت لي في اللوح.
- لم أر شيئا!.. وماذا يعني هذا؟
- يعني أنها ستكلمني قريبا.
- على الله.
الآن أخط له الخطاب الرابع الذي أردت أن أضع بداخله قنبلة موقوتة بالفعل.

«شاعري الرقيق:
هناك أمر يحيرني.. من تلك الفتاة التي تبدو معك طوال الوقت.. وتساجلها في الشعر أسبوعيًّا.. ماذا بينكما؟! أرجو ألا أكون قد فرضت نفسي عليك ولكنك استجبت لطلبي، وهذا يعني أنك موافق على لقائي.. فهل لتضحكا علىَّ معًا؟!
 إن كانت لا تمثِّل لك تلك الفتاة شيئًا فاقطع صلتك بها قبل أن أظهر في حياتك.. إذا وافقت على طلبي ضع علامة صح».

وضعت الخطاب في الصندوق.. وانتظرت حتى تسلمه.. قرأه هذه المرة وحده.. وتردَّد يومين ماذا يفعل؟!
 لم يُرني الخطاب ولم يضع علامة الصح، ولم يحجم عن لقائي والجلوس بجواري كعادته في المحاضرات.. لكنه في اليوم الثالث وضع علامته، وبمجرد أن انتهت المحاضرة أسرع بالانصراف قبل أن ألحق به، واستمر على هذا الحال حتى موعد الندوة المقبلة والتقينا بها:
- أين أنت؟! لماذا تسرع بالانصراف؟!
- أبدًا مشغول مع والدي في أمر ما.
- وماذا عن أخبار البنوتة صاحبة الخطابات المعطَّرة؟!
- لا أعرف عنها شيئًا!
- لم تعد تكتب لك؟
- نعم لم تعد.

ضحكت وقلت وكأنني أمزح معه:
- هكذا بدأت تخفي عني أسرارك.
- لا لا لم أُخفِ شيئا، وقام سريعًا من جواري.

فسألته:
- هل ستأتي هي الآن؟!
- لا أدري.. ربما.. لا لست أدري.
ألقينا الشعر ولم يكفَّ عن التلفُّت يمينا ويسارا متفحِّصًا في الوجوه، مع الحرص على البعد عني كلما اقتربت منه.. وبعد الندوة أسرع بالانصراف.

في البيت جلست أفكر في الرسالة الخامسة حتى استقر تفكيري على الرسالة الآتية:
«شاعري الجميل:
 كم أنا سعيدة أنك تغيِّر عاداتك من أجلي، وتتجنب صديقتك من أجلي وترسم علامتك كل يوم من أجلي.. تأكد أنك لن تندم وستسعد حين تراني، وتزداد سعادتك كلما اقتربنا من بعضنا البعض، والآن سأعطيك موعدًا للقائنا، لقد قرب العام الدراسي من الانتهاء اصبر حتى آخر يوم في الكلية، في هذا اليوم سيكون لقاؤنا.. أقول لك لماذا اخترت هذا اليوم؛ لأن بعده أجازة طويلة تكون كافية لأن تفكر هل فعلا وقع اختيارك علىَّ كما وقع اختياري عليك.. وهذا ما أتمناه.. وأيًّا كان قرارك سأقبله بكل حب.. استمر في وضع علامة صح حتى نلتقي».

 هذا الخطاب أيضا لم يخبرني به.. وظل يضع علامته يوميا كما طلبتْ، وظل يهرب من لقائي وأنا لا أحاول الاقتراب منه وأكتفي بمراقبته من بعيد.. فلما وجدني أتجاهله جاءني على حذر وسلم عليَّ.. فاندفعت فيه:
- ما هي حكايتك.. لماذا تتهرب مني.. هل طلبت منك السنيورة ذلك؟.. قال:
- أتعرفين ماذا أتمنى؟!
- ماذا؟!!
- أن تتعرفا على بعضكما البعض وتصيرا صديقتين.
- ولماذا لم تطلعني على خطاباتها الأخيرة؟!
- لم تعد تكتب.
- أنت تكذب.. أنت تضع علامة الصح يوميا فلابد أن هناك اتفاقًا ما.
-...........................
- كن صريحًا إذا كنت فعلا تريد استمرار صداقتنا.
- نعم هناك خطابان لم أُطلِعك عليهما، كنت محرجًا منك.
- ولماذا الإحراج، أتمنى لك السعادة.. كما أنني سعدت بعودة نفسك المبتهجة وإقبالك على التحصيل كما كنت.
- نعم نحن أخوان، ويَسعد أحدنا لسعادة الآخر.
- مادام الأمر كذلك ماذا عن آخر خطاباتها؟
- ستقابلني آخر يوم في العام.
- لماذا آخر يوم؟ لابد أنها فتاة معقَّدة.
- لا تظلميها.. بل هي محرجة.. ستنتظر حتى ينصرف معظم الزملاء ثم تظهر لي.
- ولماذا تخفي عني خطاباتها؟! أهى تشتمني فيها!!
- لا أبدًا.. لم تأت بسيرتك؟!!
- إذًا أرني خطاباتها.
- ليست معي.
- بل معك.. أرني هذا الكشكول.. أليس هذا هو الخطاب؟!

نزع الخطاب من يدى وأخذ يمزِّقه.. فقلت:
- إذًا هى تسبُّني ولذلك تمزِّقه، لن أراك بعد اليوم.
- أخفي وجهه بيديه وبكى:
- ماذا بك؟
- لا أدري مشاعري مختلطة.
- لا تظن أنني أقتحم حياتك.. أنت الذي أريتني خطاباتها منذ البداية فأصبحت شريكة معك.. هل تحبها لهذه الدرجة؟!
- لا أدري.. ربما أحبها بعدما أراها.
- ولماذا تبكى إذًا؟!
- لأنها القشة التي جاءت لي وقت الغرق، أتمنى أن تكون مثلك في أشياء كثيرة.. ولأن هذا ما أحسه من خطاباتها.. وأموت خوفًا كلما خطر لي أنها قد تكون عكس ما أحلم.
شعرت بمدى جرحي له.. أو بمدى جرمي، ما كنت أعرف أنَّ بهذا الرقي.. ألم يقولوا من القلب للقلب رسول؟!
فلماذا لم يصلني رسوله؟! 

لماذا لم تكن مشاعري نحوه بهذا القدر من التماهي والرقة؟! وماذا أفعل مع هذا الشاب الذي أعزُّه جدًّا ولن أتزوجه، فأنا على وشك أن أزف.. وزوجي ليس به عيب.. غريب جدًّا أمر القلوب.. كيف يعتبرني أملاً يخشى عدم تحقيقه، وأعتبره أخًا وصديقًا؟!

 ألهذا الحد هو صاحب قلب مرهف حتى يشعر أن صاحبة الخطابات تشبهني؟!
ثم كيف أصدمه وأخبره أنها أنا فأضيع منه مرتين؟!
لو انهال عليَّ ضربا حينها فلن ألومه.. لقد ظلمته بهذه اللعبة السخيفة.. وليس لي عذر فيها.. كنت أريد أن أخرجه من حزنه فأورثته حزنًا أشد.
حزنت لأجله.. مرضت لأجله.. وانقطعت عن الكلية أسبوعًا.. كان يسأل عني بالتليفون كل يوم، ويحزن لمرضي، ولما تماسكت وعدت إلى الكلية.. بادرني قائلا:
- هل رأيت علامة صح على السبورة؟
- نعم التي رسمتها أنت..
- لا بل هى.

كيف هي.. زادت دهشتي:
- هي.. هي من؟!!
- البنت التي ترسل الخطابات.
- وضعت العلامة وأنا في الأجازة!!
- نعم.. لماذا الدهشة؟! كل يوم تضع علامة صح وأحيانا أكثر من علامة.
- يا ربي هل أنت مجنون تتخيل العلامات.
- تعالي وانظري بنفسك.
- فعلا العلامات كثيرة وهذا ليس له سوى تفسير واحد أن الزملاء لاحظوا العلامات، فخمّن أحدهم أو أكثر أن لها مغزى فأراد أن يمزح. 

أنا أيضًا المذنبة، كل يوم تتعقّد فيه الأمور أكثر.. لكنه حسم أمره في أن يظل بجواري، ولما يقابلها سيفرض عليها أن نكون صديقتين، وعليها أن تقبل بالأمر الواقع، وها هي ذي الأيام تقترب، وها نحن ننتهي من آخر امتحان، وإذا به يسلم علي ويقول:
- أراك على خير في العام الجديد، أما أنا فسأنتظرها كما تواعدنا.
ترددت في التحرك.. هل أذهب إلي بيتي مرتاحة وأدعه للمجهول!!.. قلت له:
- سأنتظر معك قليلا.
- لا.. لا.. لن تقترب مني طالما أنت هنا، أرجوك اذهبي.
- لكنها لن تأتي.
- بل ستأتي.. أنا متأكد.
- لماذا تحتدُّ هكذا؟! قلت لك: لن تأتي.
- وكل هذه الخطابات والعلامات التي تضعها على السبورة.. ما تفسيرك لها؟! ستأتي.
- العلامات هناك أشخاص يمزحون بها، والخطابات أنا أكتبها.

لم يلتفت إليَّ:
- تقولين هذا حتى أمشي وأدعها.
- انظر.. هذه صورة من الخطاب الذي مزّقته.
- ماذا؟!

التفت إليّ مسرعا، ناولته الخطاب، تفحّصه.. ثم ثبّت نظراته على وجهي وتوقعت ثورة عارمة أو صفعة قوية، ولكن دائمًا رد فعله عكس ما أتوقع.

فبعد أن أطال النظر فيَّ وفي الخطاب، انفرجت شفتاه بابتسامة خفيفة.. وقال:
- كما توقعت تمامًا.
- توقعت أنني كاتبة الخطابات!!
- لا توقعت أن الحياة معك لا يتسرب إليها الملل.. يا بخت زوجك[1].


1]) أعدت سهرة إذاعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق