قصة| عبق التواصل
من المجموعة القصصية « إلكتــ.. رو.. مانسي»
(لعلها الحياة تسرق عبق التواصل منا.. لكنها حتما لا تنسينا من نحب)
قرأتْ رسالة الموبايل دون اكتراث رغم إعجابها
بالعبارة.. وتساءلتْ هل يعقل أنه كاتبها.. أنَّى لصاحب المؤهل المتوسط -مهما كان
قارئا جيدا- أن يكوِّن جملة كهذه.. لابد أنها جاءته في رسالة ووجدها مناسبة لحالة
الحظر الذي فرضتُه عليه منذ عدة أيام.. هذا الرجل الذي حرت في أمره أو بمعنى أصح
في حبه الجارف.. هو يتصرف تصرفات لو جاءت من الشخص الذي يميل إليه قلبي لجعلني
أسعد الخلق، ولكن للأسف جاءت من هذا الذي لم يخفق له قلبي قط، بل يختنق بتصرفاته،
وأراها تضييقا ومبالغا فيها.. كل تصرفاته تدل دلالة واضحة على مبلغ حبه، مبلغ
شوقه، رغبته الجامحة في أن يراني كثيرا كثيرا، وأن يسمع صوتي على مدار اليوم.. لم
أشعر بندم لإعطاء رقم تليفوني لشخص قدر ندمي لهذا الشخص.. والسبب إلحاحه الفظيع في
أن يحصل على الرقم.. يبدأ يومه بالاتصال بي بمجرد خروجه من بيته.. ينتقل من وسيلة
مواصلات إلى أخرى وهو على التليفون.. يغلق ليعود ويتصل.. ثم بعد أن يصل إلى شغله
يتصل عدة مرات لا يترك التليفون إلا ليكمل ملاحقته كتابة بالفيس بوك.. ثم يعود
للتليفون وهو عائد لبيته أيضا يتصل عدة مرات.. والحقيقة أنه دائما يجد ما يقوله،
يتكلم عن حياته، علاقاته بأبيه وأمه وأخته وعمه، قصة كفاحه والفقر المدقع الذي عاش
ويعيش فيه، رأيه السياسي فيما يدور ويحدث في البلد، قراءاته المتعددة فهو مثقف رغم
مؤهله المتوسط ويحتج بالعقاد الذي لم يحمل مؤهلا؛ لكنه العقاد! يبتكر أي كلام ليظل
الخط مفتوحا وخلال المكالمة أحاصر بكل أدوات الاستفهام التي تعبر عن رغبته في أن
يراني:
- أريد أن أراك.. متى أراك.. هل أراك اليوم..
غدا.. بعد غد.. إذن متى؟
أما يوم الجمعة فأنا على معرفة بأهل
قريته.
يسلم عليهم وهو خارج من المسجد ثم
يشرح لي من هذا ولماذا ومتى وأين.. وأنا طوال الوقت أقول:
- يكفي.. اقفل.. من فضلك لا تتصل
باقي اليوم.. ثم أصرخ أنا تعبت.. سأرمي هذا الرقم من أجلك.. اندفعت فيه ذات مرة:
- لما أعطيتك رقمي كان لتستعمله عند
الضرورة لا أن تزعجني بحكاياتك وأصوات الكلاكسات لمجرد أن لديك فائضًا من
الدقائق.. ليس لدي الوقت لأضيعه في ثرثرة كهذه.
أظل بالأيام لا أرد عليه.. وهو لا يمل الاتصال..
ثلاثون مرة في اليوم، فأضطر لجعل الموبايل في وضع الصامت وهنا تنشأ مشكلة أخرى مع
من يتصلون ولا يجدون ردًّا.
وكثيرا ما أتساءل كيف لهذا الرجل
المسكين الفقير أن يتجرأ ويعلن بوضوح أنه يحبني وهو يعرف الفارق الاجتماعي بيننا..
يعرف أنني من علية القوم وأنني مثقفة ومرموقة.. ولا يعرف شيئا عن ظروفي الاجتماعية
فما الذي يشجعه على ذلك ويجعله يتكبد مصروفات الشحن المستمر..
تقابلنا مرتين.. في الثانية قال:
- أتمنى أن آخذك في حِضني.
قلت: - وأنا أتمنى أن أصبح رئيس
جمهورية.
قال: - من الممكن أن تصبحي رئيس
جمهورية ولكن أنا من المستحيل أن يتحقق حلمي.
أما أول لقاء تم بيننا فكان صدفة
مقصودة.. قرأ على الفيس أنني سأحاضر اليوم في مكان ما، رغم بُعد المكان عنه جاء..
بعد المحاضرة رن التليفون:
- أنا هنا..استديري الآن.
وجدته أمامي
بطوله الفارع ووجهه العاشق ورعشة أطرافه.. واختلاجة خديه و... و... كثير.
جلسنا على
أريكة في حديقة المتحف، كان سعيدا برؤيتي، وأنني كما في مخيلته.
ضيق الوقت
أنهى اللقاء سريعا، ولكنه ترك دلالات واضحة.. هو عاشق فعلا.. وأنا قلبي غير مكترث
به فعلا
.. فهل
لقلبي حبيب آخر؟
ذلك الآخر
يطلب لقائي مرارا وفي كل مرة أقول له في أي وقت تقرر أنا على الأهبة.. ولكنه لم
يقرر.. أخبره أولا بأول أماكن وجودي ولم يجد الوقت ليقابل من يواصلها بالحاسوب
ويبثها أشواقه يوميًّا لأكثر من مرة ولعدة ساعات..
الصباح الباكر يسبقني في الأغلب:
- صباح الخير والجمال والحب على أجمل عيون في الكون، أتمنى أن
تسعدي بيومك المعطر وأن يكون يوما سعيدا طيبا.
ربما أرد عليه بعد ساعة.. ربما يكون
موجودا فنكمل حوارا رومانسيا حالما.. ربما لا يكون موجودا فيرد بعد عودته من
عمله.. ربما أكون موجودة فيطول الحوار هامسا ورقيقا.. أما المساء فهو لنا.. لابد
من أن نتقابل ويمتد بنا الحديث..
- مساء الخير إلى أهل القمة والذوق والجمال والعلم والأدب.. كيف حالك.؟ أتمنى أن تكوني بخير.
نستمع
لأغنية ونرددها معا.. نتبادل كلماتها كتابة، يحكي لي ظروفه، فراغ قلبه الذي ملأته
حبًّا ورقة وظرفا، حالة السعادة التي يستقبل بها يومه وينام يحتضنها.. أطوف معه في
كل سبيل فإذا ما عرج إلى بثي مشاعره فأنا لا أجاوبه صراحة، يكتب كثيرا ومتلاحقا..
اسمي مع كلمات أحبك أعشقك.. ثم يلح كثيرا كي أنطق بكلمة تسعده وتطمئنه:
- قولي كلمة حلوة.
- كلمة حلوة.
- لماذا تبخلين علي ببعض حبك؟
- ربي خلقني بخيلة.
- أشعر أن قلبك الآن يرفرف كعصفور حبا لي.
- براحته.. أنا لا أمنعه.. ولكن لي عقلا
يسيطر عليه.
فيقول بعد
أن يتنهد:
- ما أتعبنا إلا التفكير بالعقل وتركنا القلب
ينبض ما يشاء إلى أن وجدنا أنفسنا نعيش بلا هدف.
- أنا أعيش بالاثنين.. قلب يرف ويبدع وعقل
يحميه من الزلل.
- أنا معجب بكل ما
فيك.. روح الدعابة، ورقة عفوية وأناقة دائمة، وثقة زائدة.. ينقصني.. أن أثق بحبك
لي.
ولما يزيد إلحاحه أقول له:
- كلامي مؤجل حتى نلتقي، ربما وقتها يكون
هناك رأي آخر.
أحيانا يحاول أن يلفت انتباهي بحكايات ملفقة
ولما أكتشف تلفيقها وأخبره يعترف على الفور أنها كانت لتجذبني نحوه.. أحيانا يحاول
أن يستثير غيرتي:
- معي الآن صديقة من سوريا..
ويستطرد:
- آه من نساء سوريا كأنهن مخلوقات لإسعاد الرجل.
ولما يرى عدم اكتراثي بل أصدّق على
كلامه وأمدح فيهن.. يقول:
- لا يطير فكرك للبعيد.. هي مجرد
صديقة.
- لم يطر فكري لأي بعيد.. اطمئن أيها الطائر
الغرِّيد.
أما عندما
يشكو من زوجته التي هي نائمة الآن تشخر، والتي هي بوزن الفيل، والتي لا تهتم به،
أو لا تهتم بنفسها من أجله، فأنا دائما في صفها أدافع عنها.. فلا أجدها فرصة لي بل
اختبارا.. وهل كوني أميل إليه بقلبي يجعلني أرمي المؤمنات الغافلات.. فيقول:
- أحيانا
أشك أنك تعرفينها.
الحمد لله أنني أميل للعدل ولا أزن
بمكيالين، ولماذا وأنا التي تسمع ميكروفونات المحافل دفاعي المستميت عن المرأة
وحقوقها.. فيصدمه كلامي:
- ربما أنت السبب.. اطلب منها ما
تريده.. هل تتعاون معها؟ هل تقدِّر جهدها في البيت ومع الأولاد.؟ ما تريد أن تفعله
هي افعله أنت، وما تريد أن تسمعه منها قله أنت و و.. ثم أقول له:
- لا أريدك أن تتعلق بي هكذا.. هذا يزيد
الفجوة بينك وبين زوجتك أكثر، وأنا أريدكما تقتربان.. أتمنى أن أجدك زوجا سعيدا..
يقول حاسما:
- أنت همي
الأن.. لقد أسرفت في إظهار مشاعري فهل له تاثير عندك أم تعتبرينه هراء طفل شقي.
- أسرفت كلاما ولم أخبر بعد مدى قدرتك على
استخدام الكلمات.. ربما تعودت هذه البراعة.
- أحبك بجنون أيتها المرأة العنيد..
آه لو تعرف كم يجذبني كلامك
وحكاياتك، وما تختاره لي من أشعار وكأنك ناظمها من أجلي، ولكني امرأة لها ظروف..
كوني أرملة ولدي طفل يجعلني أحتفظ بمشاعري بكرا.. فأقول:
- أنت رجل
افتراضي وأنا بالنسبة لك امرأة افتراضية.. لابد من إزالة هذا الافتراض باللقاء
وسيكون بعده ما يكون.. أحيانا يغضب ويقول:
-
تصبحين على خير.. فلا يجد سوى:
- وأنت من
أهله..
فيعود ويفتح
حوارا جديدا قد يطول ويرسل أشعارا عاطفية لعله يصل من خلالها لما يريد وأنا ثابتة
على المبدأ، فكيف أبوح بمشاعري لرجل لا أعرف إلا صورته وكلمات يقولها من مثل:
- كم أشتاق إليك.. لم
أعرف حبا أكثر من حبك، ولا حنانا أكثر من حنانك، ولا رومانسية أكثر مما أنا فيه
الآن.
- أو يقول: شوقي إليك يزداد كل
لحظة.. اتركيني أحبك.. ولو من طرف واحد.
حرت
في أمرك يا رجل.. كلامك عن المشاعر والقلب، وقسمك لا تدل عليه أفعالك؛ فأنت أخذت
رقم تليفوني ولم تتصل سوى مرة واحدة وسريعة ربما لتتأكد أنه رقمي مع اعتراضك على
الرقم لأنه مختلف عن رقمك..
ثم وعدت أكثر من مرة بالاتصال أثناء
اليوم ولم تفعل، أُعدُّك بخيلا مقارنة بذلك الفقير الذي لا يمل الاتصال حتى ينفد
رصيده فيذهب لخدمة سلفني شكرا.
أما حبيبي الذي يبخل باتصال تليفوني
فلا يمل من طلب رؤيتي بالكاميرا.. أنا أيضا لا أمل رفض هذا المطلب:
- لا أتعامل مع الكاميرا إطلاقا
وهأنذا أوافق على أن نتقابل حقيقة في النادي الأهلي وسأعزمك أنا لأنك تعتبر في
بيتي..
ثم قررت لقلبي أن يعتزل وهو في
القمة.. كما يفعل لاعب الكره.. لابد من إيقاف هذا الجدل المعاد بلا فائدة.. وحددت
موعد الإغلاق..
كانت مشاعري في الأيام الأخيرة جياشة وشجية؛ لعلمي بأنها أيام
الوداع، وهو يتساءل:
- ماذا بك.. أشعر أنك حزينة.!!
وأرد عليه بما يسميه ألغازا:
- أشياء جميلة ستضيع مني.
- كلامك ملغز.. ما الذي تخافين ضياعه
منك؟
- ستعرفه بعد يومين..
- من فضلك احكي.. أحس فيك الحزن والهم
اليوم..
- أمس واليوم وغدا فقط.
- لم أر حزنا محدد المدة كحزنك.. ومع
ذلك أتمني الآن أن أقوم علي الفور وأجهز لك الشاي مع الحليب وشيء من بسكويت وأضعه
أمامك.. ثم أضع أحلي وأجمل قطعة حلوى في أحلى وأرق وأطعم فم.. هل توافقين.
- ألا تمسح دمعتى التي طفرت الآن.
- أوووه.. نعم طبعا.. يكفيني فخرا أن أكون لك
خادما مدي الدهر.. ويستطرد:
- آسف لأغلي دموع.. قلت أحس فيك
حزنا.
- الحزن لا يدوم.. كما هي الأيام الحلوة لا
تدوم.
ومرت الأيام وكتب يودعني لأنه مسافر وسيتواصل معي من هناك.. وانتظرت لمنتصف
الليل وقمت بحظره بعد أن كتبت له رسالة مختصرة أقول فيها:
لعل ما أسميته ألغازا تكشف لك الآن.. وعرفت سبب حزني الذي سألت عنه،
وقلت لك أن آخره غدا.. ولعلك أدركت ما هو الشيء الحلو الذي سيضيع مني، وعرفت سبب
دمعتي التي انحدرت، وسر قولي "ستوحشني".. أملي أن تتذكرني بالخير.
حدث من قبل وألغيت الصداقة بيننا لتجاوزه خطا أحمر.. أسبوعان وعدنا
واغرورقت أعيننا معا، وقال تألمت كثيرا لغيابك، هجرك أتعبني.. لا تفعلي هذا مرة
أخرى مهما حدث، مهما حدث، كان وقتها الاسكاي بي مفتوحا فكتب عدة مرات "أنتظرك
سيدتي".. الآن أغلقت الاثنين.
ولغيظي من أن أحظر من يهواه قلبي فلن
أبقي على من يطاردني وكأنه أوقف حياته من أجلي.. حظرته هو الآخر، يومان واستقبلت
الرسالة:
(لعلها الحياة تسرق عبق التواصل
منا.. لكنها حتما لا تنسينا من نحب)
ومر وقت طويل.. أعيد قراءتها من وقت
لآخر، وأنا أعتقد أنها من الذي لا يمل الحيل للاتصال، من أرقام أعرفها وأرقام لا
أعرفها.. أرد مرة بعد عشرين اتصالا.. فيبادرني:
- أريد أن أراك.. ارفعي الحظر..
لماذا تعاملينني هكذا!!
يتعصب أحيانا ويقسم ألا يتصل بي
ثانية ثم يعود ويتصل:
- أحبك وهذا ليس بيدي.
ثم أدخلَ صفحة جديدة يصل إليَّ من
خلالها.. وفي كل مرة أريد أن أسأله من أين أتيت بهذه العبارة.. وأنسى أحيانا من
عصبيتي معه، وأتناسى أحيانا حتى لا يظن أنني معجبة بجملة كتبها فيطمئن من ناحيتي..
اليوم فتحت العبارة أتأملها ونظرت إلى تاريخها،
يا الله.. إنها في اليوم التالي لحظر حبيبي.. هي رد فعل للمفاجأة التي وجدها.. هي
من أسلوبه وروحه.. هو أكيد من أرسلها.. وتحرك دمي في عروقي ليلف جسمي ويستقر في
قلبي ليخفق بعنف.. الحياة تسرق عبق التواصل منا نعم يا حبيبي، لقد كان أجمل
تواصلا.. ثم يؤكد لي أنه لن ينساني.. ياربي كيف لم يخطر ببالي هذا.. كان يجب أن
أعرف أنه هو.. ولكن لماذا تعمد أن لا أعرف.. وأرسلها من تليفون غير تليفونه..
الهواجس كادت تفتك بي.. أتعبني التفكير.. ماذا أفعل الآن لكي أعرف الحقيقة.. سأتصل
بالرقم ويحدث ما يحدث.. مهما كانت النتيجة أفضل مما أعانيه من قلق وحيرة.. وجاء
الصوت أنثويا ورقيقا يقول:
- أهلا حبيبتي.. وحشتيني.. كيف
حالك..
بتلعثم ودهشة قلت:
-"منى" أنت التي أرسلت هذه
العبارة.
- نعم ولكنك لم تردي علي فقلت أنا
لست قدر المقام.
- جملتك جميلة يا "منى"..
أما هو فلم يرسل شيئا.. ولم يحاول
الاتصال بأية وسيلة.. ولم يتوقف قلبي عن النبض له، أما تليفون الآخر فلا يزال يرن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق