حلم
لم يتم
كانت في الخامسة والعشرين وكان في السبعين.. حدث يتكرر،
مقدِّمته واحدة، وهدفه واحد، نتائجه ليست واحدة، سعادة أهلها بالشيخ لا توصف..
لماذا يرفضونه وهي المطلَّقة بسبب استحالة الإنجاب، وهو أرمل ولديه المال؛ فضلا عن
كونه رجلَ سياسة ووجاهة؛ فهو عضو مجلس محلي قريته وكبيرها؟! باختصار هي عز الطلب
لرجل لديه عدد من الأولاد، أصغرهم أكبر منها سنًّا.
هو أيضا عز الطلب بالنسبة لها؛
فيوم أن يكون عمره طويلا أمامه عشر سنوات على الأكثر، تكون بعدها لا تزال في عز
الشباب؛ ولكنها ستصير غنية، ويمكنها أن تتزوج وتعيش حياة الرغد، والعيش الهنيء.
هجر المدينة
وعاد لقريته بعد وفاة زوجته أم الأولاد.. فتح في بيته محلا وسجَّله باسم الزوجة
الجديدة.. صالت وجالت في البيت بجميع أدواره، ومحل أشرفت بنفسها على البيع والشراء
فيه، والتسليم والتسلم لبضاعته، وشقق البيت كلها تحت تصرفها.
من تتزوج الرجل الطاعن في السن وهي في شبابها لا ننكر
عليها مطامعها، وحقَّها في «التكويش» على كل ما تطوله يدها من أموال، منها ما
يُكنز مالاً، ومنها ما يتحوَّل إلى ذهب يملأ اليدين والصدر.. ولم يقف الأمر عندها،
فأخواتها تأتين بحجة المساعدة وتعدن محملات بما في المحل من لوازم بيوتهن، وأيضا
بالأموال من يد أختهن سيدة كل شيء.
الرجل في هذه
السن لا يهمه سوى مأكله وملبسه، والجلوس عند باب المحل يستقبل الشكاوى ويحكم فيها،
فضلا عن مداعبة الأطفال وتفريق الحلوى عليهم.
من تتزوج الرجل
الطاعن في السن وهي في شبابها، يكون لديها الأمل في الحياة بعده، وبما أن المال في
يدها فلابد من أن تستعد لذلك اليوم القريب في حساباتها من الآن.. فإذا مر الذي
يبيع الملابس الجاهزة والأقمشة وزجاجات العطر وأدوات الماكياج، فهي لا تشتري لتلبس
أو تتعطر أو تتزين؛ بل لتخزنه للمستقبل.. فلديها دولاب لحفظ حاجياتها في بيت أمها
الذي صار بالمسلح بجهدها وأموالها، وهي النبع الهنيء لأخواتها اللاتي تعلَّم
أولادهن بفضل سخائها.
وكلما رفرف
الحلم الوردي زادت شراهة الشراء والتكويش فيها.. وليس هناك من يحاسب أو يجادل معها
فيما تفعل، أولاده جميعا في غنى عن البحث عن أموال أبيهم والسؤال أين تذهب؟
والحقيقة أنه زهد وغنى نفس أكثر من كثرة الأموال بأيديهم، فعاشت بعيدة عن أية
منغصات من بناته وأبنائه؛ فأولاده جميعهم يعملون ولهم بيوتهم ولا يحتاجون سوى
زيارة أبيهم المستمرة والإطمئنان عليه.. وفي كل زيارة يحملون الهدايا له ولها.
كنا نمضي الوقت ونعود إلى بيوتنا، فلا مكان نبيت فيه في
هذا البيت بتعدد أدواره؛ فشقة لنومهما، وشقة لخبيزها ونشر الملابس وتجهيز الفطير،
وكعك العيد بسخاء لنا ولأهلها، وأربع شقق أخرى تتحصل على إيجارها، وسطوحا به عشش
وحظائر.. فضلا عن معاشه من التأمينات كصاحب عمل، معها بطاقته وتُصرفه وحدها.. ومع
كل هذا تدَّعي العَوَزَ وسوء الدخل وقلة الرزق.
نأتي بأطفالنا،
فما أن يتجمعوا حتى يبدأوا على الفور لعبتهم المفضلة، ولعبتهم هي البحث عن كنز علي
بابا، وعلي بابا يعنون به «زوجة أبي» وهو البحث في كل مكان عن نقود تخبئها هنا
وهناك.. فمنها ما يكون تحت قاعدة التليفزيون ومنها تحت المرتبة ومنها في دولاب
المطبخ وعلب التوابل.. ومنها ومنها، والأولاد بصغر سنهم وقلة أحجامهم يندسون خلف
الدولاب وتحت السرير يخرجون ما يخفى، ويأتون بكل هذا إلى جدهم:
- افتح ياسمسم حجرك.. خذ كنز«امرأتك».
يبتسم وينادي عليها فتأتي، يعطيها ما في حجره:
- خذي يا «هبلة».
تضحك:
- «جاتكم إيه يا ولاد».. عفاريت صحيح.
كثيرا ما كنا ندافع عنها نحن أولاده أمام بعضنا البعض من
بعضنا البعض، فإذا احتج منا أحد قائلا:
- إنها تسرق أبانا وإنها تجهز نفسها وتستعد لعرس جديد..
أو.. أو.. انبرى آخر منا قائلا:
-حقها؛ هي زوجته ومن حقها كل ماله مادام برضاه، ومن حقها
الأمل في المستقبل، ولماذا تتزوجه وهذا حاله إذا لم تستفد من ورائه الأموال؟!!
وهكذا نراهما زوجين متكاملين، كل منهما يعطي الآخر ما
عنده، ويأخذ ما يرضيه.
ومرت السنوات
العشر والحال كما هو، وسنوات بعدها سنوات وهي تسأل نفسها:
- متى؟!
وتوقفت عن
السؤال، جاءها ما يشغلها، أمراض معتادة.. السكر والضغط، ولهما تبعات مزعجة مع
الاهمال، انشغلت بخرّاج عند كعب قدمها، عالجته فأبى الانصياع.. زاد وكبر ونخر في
العظم، قرر الأطباء بتر أصبع فثانٍ، ثم قرروا بتر القدم.. وهنا رفضت بشدة:
- سأعالجه مهما كلفني.
وما عطب لا يعود.. ظل يستنزفها جهدا ومالا وهو في
ازدياد.
كان أخي يساعد
كثيرا بأخذها للطبيب وإحضار الدواء، وظل السوس ينخر في العظم، وظلت تغيّر عليه كل
يوم معتقدة أنها ستشفي في يوم ما.. وزاد السكر فضعف البصر واحتاجت لعملية مُكْلفة،
فطلبت من أخي مصاريف العملية لثقتها أنه لا يتأخر كرامة لوالده.. فلما قال لها:
بيعي سوارًا مما في يدك.. أخفت كل ذهبها عند أخواتها وحرمت نفسها من التمتع به.
وعشر سنوات أخرى أمضتها في أحضان أمراضٍ تنخر في عظمها
وأعصابها محرومة من كثير من المأكولات، فينقص وزنها وينقص حتى صارت جلدًا على عظم،
كسيحة برجلها المريضة.. نعطف عليها ونتأمل حكمة الله فيها.
فمنا من يشفق
عليها بعقله ويقول: ذنبنا وذنب أبينا.
ومنا من يشفق بقلبه ويتذكرها وقت أن كانت فرسًا واقفًا
مشرئبًّا بشبابها وحمرة خديها، ويقارن حالتها الآن فيحوقل ويستغفر.
صرختْ في أبي ذات يوم من الألم قائلة:
- كل قرش أخذته من ورائك دخل على جسمي نار.
هذه الصرخة لم
يستوعبها فقد كانت ذاكرته تخونه منذ تخطى التسعين بسنتين حتى صار لا يعرف أسماءنا،
ولا من راح ولا من أتى، واحتاج لخدمة زائدة وغذاء مخصوصا وهي لا يمكنها.
زاد حرصنا علي
أبينا فأكثرنا من تداوله بيننا قائمين بكل احتياجاته ماديا ومعنويا، وتركها تتحصل
على كل أمواله وحدها، الحقيقة ليس وحدها فأخواتها يخدمنها ويأخذن الأجر مضاعفا.
ولكل أجل كتاب
مهما طال، مات الوالد.. وانتهت مراسم دفنه وأيام العزاء الثلات، وحان وقت عودة كل
منا لبيته وإغلاق بيته والتنبيه على السكان بترك الشقق؛ فكل منا له شقة سوف
يتسلمها.. ولا مشكلة أبدا معها في الميراث، فقد كتب لنا أبي البيت وقسَّمه علينا،
وكتب لها أرضا أضعاف نصيبها في البيت، وتسلمتها من سنوات واستفادت بريعها طوال
حياته، فكان عليها أن تكون أول من تخلي مكانها.
قال أخي:
- لا يصح أن نتركك وحدك هنا.. وأنت بدون رجل.. كل ما
تريدين أخذه من البيت خذيه، وكل ما في المحل من بضاعة هو لك.. ما رأي البنات؟
أعلنا جميعا
الموافقة.. تليفون منها إذا بثلاث سيارات نصف نقل.. وعدد من أخواتها وأبنائهم،
انتشروا يعبون السيارات بكل ما في الشقتين حتى السرير والثلاجة والتليفزيون وكل ما
في المطبخ والبصل والثوم والسمن و.. و.. كانت الكراسي ترمى من البلكونة فيستقبلها
آخر يقف فوق السيارة.
الحقيقة لم ينسوا شيئا، وما علينا سوى أن نهز رؤوسنا،
ونتعجب مثل الرجال والنساء والأولاد الذين تجمهروا بالشارع لمشاهدة المنظر.
أما ما في الدكان من بضاعة فسبحان
الله جاء المورد بالمصادفة، علم بالخبر فبكى كثيرا ثم أخذ كل ما هو مقفل، ودفع
ثمنه لها والباقي جمعته وأخواتها في أكياس ووضعته بجوار ما أخذوا من أثاث.
وانتهى الموقف أمام أهل البلدة، وقد تكفلنا بإسكات من
تطوع بقول:
كيف نتركها تأخذ كل شيء وهي التي جاءت بلا أي شيء؟!
وكيف هي وأخواتها بهذا الجشع وهذه الجرأة؟!
ونحن لا نزيد عن كلمة: مسامحين.. مسامحين.
الحقيقة هي لم
تذهب بكل هذا فقط.. وهذا هو العجب، فقد ذهبت بخراج جديد في قدمها الأخرى.. القدم
السليمة، ففي يوم الوفاة شعرت به، وفي اليوم التالي أخذها أخي للطبيب، وجاء لها
بالعلاج.. بعد أسبوع صرخت لنا في التليفون:
- الحقوني!!
أسرعنا إليها.. عرضناها على الأطباء والمستشفيات، الكل
قرر بتر القدم.. لا إله إلا الله، بترت القدم التي كانت سليمة أولا.. بعدها بقليل
بترت القدم المعطوبة من قبل، وبدلا من أن تلبس جهاز العرس لبست جهازي القدمين..
ولم يمر العام الثاني على وفاة الوالد إلا ولحقت به.
ماتت دون أن
تلبس ما جهزت من ثياب ولا ما شرت من ذهب ولا ما باعت من أرض والدنا دون علمنا..
وكما قيل: «مال الكنزي للنزهي».. ذهب كله لأخواتها شرعا وحلالا[1].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق