الخميس، 16 نوفمبر 2017

المتشرد



 المتشرد
قم يا ولد يا بن ال.........
وركله بمقدمة حذائه.. كان الولد يرقد على ظهره مظلِّلاً عينيه بذراعه..
رفع ذراعه ونظر إلى صاحب الركلة الذي أشار بيده كي ينهض من فوق عتبة المحلِّ حتى يفتحه.
قام الولد بتكاسل شديد يسلخ جسدًا مهدودًا من الأرض.
رفع الكرتونة التي كان يستلقي عليها.. دسَّها تحت إبطه ومشى يجرُّ ساقيه خلفه.
جسده ثقيل ككيس من الجير حُمِّل على ساقين كفرعينِ من شجر جافٍّ، عند نهاية الرصيف فرش الكرتونة وحط فوقها كيس الجير.. شد حافتي قميصه الممزَّق يداري بهما صدره الصدئ.

 عبث بأصابعَ معروقة في مزْق بنطلونه المدهون بالشحم، فجأة رفع يديه الاثنتين إلى رأسه يهرشها بعنف وضيق حتى جرح فروتها.
مسح الدم العالق بين أظفاره في قميصه.. تثاءب.. عاد وهرش رأسه وركبته، وظهره، وأذنه، وأنفه و.....
قام ينفض ملابسه، ويرتِّبها فوق جسده النحيل، ثم عاد وقعد في مكانه
مسترخيًا واضعًا ساقًا على ساق.
دون أن يمدَّ يده ألقى أحدهم إليه بقطعة نقود.. تفحَّصها جيِّدًا دون أن تلمع عيناه فرحا.

 قام رافعًا الكرتونة ومشى خطوات بطيئة إلى عربة الفول المدمس ناولها للرجل، ناوله نصف رغيف محشوًّا فولاً بالزيت الحار، عاد ب "الساندويتش" إلى مكانه.. افترش الكرتونة وجلس يلتهم إفطاره بشهية، ثم أعطى ظهره للطريق ونام.

 لما التفَّت الشمسُ ناحيته وبعثت بأشعتها إلى قفاه وظهره وساقيه، استحلى دفئها فاستدار لها لتغمر وجهه وصدره وبطنه، ولما تحول الدفء إلى لسعات محرقة قام ساحبًا فراشه تحت إبطه وراح يجر فرعيه الجافين.
 المحلات تفتح أجفانها واحدة بعد الأخرى.. تبرق "فتريناتها" بملابس الرجال والنساء.. ملابس داخلية وخارجية، ملابس للسهرة وأخرى للصباح، وهو يمشي من أمامها ولا يبالي.
فإلي أين سيذهب بتلك الملابس؛ مجتمعاتها غير مجتمعه.
يمرُّ على محلات تبيع الأحذية البنِّية والسوداء، وهناك أحذية بيضاء وصفراء. هو أيضًا لا يبالي؛ ازداد سُمْك الجلد في قدميه فما حاجتهما لجلد البقر.
وهناك محلات لعصير الفاكهة والوجبات السريعة، وهو لا يشعر بجوع أو عطش.
 ثم تسمَّرت ساقاه فجأة أمام واجهة محل.. بالفاترينة يقف تمثال لأنثى، صُبَّ جسدها في قالب بمقاييس الجمال.. اكتسى هذا الجسد بملابس بحر حريرية من قطعتين، فوقهما روب من الحرير الملوَّن لا يستر ساقها المتقدمة عن الأخرى.

 وقف المتشرد البائس يتأمَّل الموديل.. يتفحص أجزاء جسدها عضوًا عضوًا.. دبَّ النشاط في جسده عضوًا عضوًا.
 تخيَّل عينيها ترنوان إليه.. تخيل شفتيها تبتسمان له.. شعر بحاجبيها ترتفعان وتهبطان له، بدأ يلاغيها بحاجبيه، وابتسامته، وشَرَه عينيه.
تجرَّأ ومدَّ يده يدعوها للانطلاق معه، ولما كان صادقًا في دعواه لبَّت نداءه.. مدَّت يدها وخطَّت خارج زجاج الفاترينة بخطواتٍ رشيقة.. انطلقت بصحبته.
ظلا يركضان ويركضان فوق رمل الشاطئ الخالي إلا منهما..
ظلا يضحكان ويضحكان حتى سمعت ضحكاتهما نجمة نائمة في السماء فاستيقظت تصفق لهما.
 سحبها من يدها ناحية البحر.. تردَّدت خجلى، وهزَّت كتفيها في دلال.
جذب ذراعها بإصرار لطيف.. مشت معه مستسلمة بحذر.. ظلا يتوغلان داخل المياه رويدًا رويدًا..
تغطِّي المياه أقدامهما، ساقيهما، أفخاذهما، ارتفعت إلى البطن فالصدر.
قفزا لأعلى يصدَّان الموجة فالموجة الأخرى.. تمدَّدا بنعومة فوق سطح المياه.. ظلا يسبحان ويسبحان دون أن تبتلَّ ملابسها الحريرية الناعمة.
كست الشمس جسدها بأشعَّتها الذهبية فورَّدت وَجْنَتيها أكثر.
اقترب يقطف لهيبهما بشوق.
ظل يضغط بشفتيه ويضغط فوق زجاج الفاترينة.
قذفه صاحب المحل بطول ذراعه على الرصيف.. فشُجَّت رأسه.
 (الرافد - فبراير 2002)
(الثقافة الجديدة - يناير 2006)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق