الخميس، 23 نوفمبر 2017

جدي « قطط بيضاء»



« قطط بيضاء»

يحكي كبار عائلتنا عن القطط البيضاء التي جاءت إلي سرادق، العزاء المقام لجدي، واحتل كل قط كرسيا واستمع إلي ربع من القرآن الكريم ثم نزلوا جميعا وراء بعضهم البعض و.. مشوا.
أكثرهم حكيا لهذه القصة المدهشة أنا؛ فأنا شاهدة عيان لهذه الواقعة ولا أملُّ من حكيها.
حكيتها صغيرة لزملاء المدرسة، وحكيتها أما لأولادي، والآن أجمع أحفادي وأقول لهم:
جدي رغم لحيته البيضاء الكثة لم أكن أخافه.. أجري إليه بسنواتي الخمس أتسلق ساقيه، واستقر على فخذيه.. يمرجحني، يهدهدني، يداعبني، و.. يطعمني بيده.
أتناول منه «الدبوسة» وأقطب جبيني وأقول وأنا غاضبة:
- أنت تعطيني «العَضَمَه»!! 

 ولأنني وقتها كنت أنطق الظاء ضادا، وكل حروف الكلمة مقلقلة فكان نطقها يدعو للضحك، فيضحك الجميع ويطلبون مني إعادة الكلمة ثم يتخذونها فيما بعد مادة للتندر والفكاهة.
- ماذا يعطيك جدك يا عسل؟
- العَضَمَه.
- هاها... يضحك الجميع.

 انتبه وعيي لأجد جدي هذا من حفظة القرآن الكريم لا يمل من قراءته بصوتٍ عالٍ، فكثيرا ما كنت أصحو من نومي علي صوته وهو يردد قوله تعالي:
{فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان}[الرحمن:13]
ولأن هذه الآية تتكرر كثيرا كنت أظن أن جدي لا يعرف غيرها.. أجري إليه وأشد شعرة من لحيته البيضاء وأقول له:
- أنت لا تعرف «الكلب فلفل والقط شرشر.
- لا.. ما هما؟
أجري وأحضر له كتاب المدرسة:
- اقرأ هنا وأنت تعرف حكايات كتيرة.
يربت علي ظهري ويقول:
- بارك الله فيك.. تعلمين جدك!.. اقعدي حتى أحفظك القرآن.
- أحفظه يا جدي كله.
يضحك من كل قلبه ويقول:
- كله.. كله!! اذن اسمعيني.
أضم ذراعي فوق صدري وأقول بحروفي المقلقلة.
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. بسم الله الرحمن الرحيم.. ﮋﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮊ صدق الله العظيم
هذه المرة يكاد ينقلب على ظهره من الضحك ويقول:
- هذا كل القرآن؟! اقعدي.. واقرئي ورائي.
 ظللت أردد وراءه حتى كبرت، وتقوّم لساني، وازداد تعلقي بجدي حتى قرر أبي قرارا هز كياني، واقتلعني من جذوري.. انتقالنا إلي بيت جديد بعيدا عن بيت جدي، يومها بكيت كثيرا وقلت:
- تعال يا جدي معنا في البيت الجديد، قال:
- ونترك جدتك وأخوالك.. اطمئني سأزوركم كل أسبوع.

صدق جدي، ووفي بوعده حتى صارت من عادته أن يذهب لصلاة الجمعة في مسجد سيدنا الحسين ثم يأتي لزيارتنا وتناول الغداء معنا، وأصبح لقائي به في الزيارات بمثابة لقاء الأحبة.. وفي كل زيارة أكتسب منه معلومة أو حكمة أو لفتة دينية في أسلوب محبب.. فكان يشمر عن ذراعه ويقول:
- انظري أنا ذراعي أبيض وأنت ذراعك أسمر من الشمس، يا حرام ليس معكم نقودا لتزيدوا القماش نصف متر لتغطي ذراعيك.. ترد أمي:
- البنت صغيرة يا أبي.
فأرد من فوري:
- لست صغيرة، سأسمع كلام جدي.
ويختفي من دولابي كل ثوب بنصف كم.. وكلما كبرت كلما تشبعت بمباديء جدي أكثر وتشوقت لحكاياته أكثر وأكثر، وكنت أنتظر زيارة الجمعة بفارغ الصبر.. لاستمتع بحكاياته الكثيرة عن ذى النون المصري، وسيدنا الخضر، وقصة مرض سيدنا أيوب وصبره علي هذا الابتلاء حتى شفاه الله، وقصة سيدنا موسي الذي عدى البحر ولم يبتل، أما القصة التي يحبها جدي ويرددها كثيرا كثيرا فهي قصة الحوت الذي ابتلع سيدنا يونس ولم يهضمه.. ثم يردد في نهاية كل قصة:
سبحان الله! {فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان}[الرحمن:13]
رويدا رويدا أدركت معناها وتغلغلت في نفسي.. فهل تدوم سعادتي بجدي!!
كان من الممكن لولا ذلك اليوم الذي دق بابنا دقا عنيفا فجرينا نحو الباب ونحن نردد:
-حاضر حاضر.. يا ستير يا رب!
 وما أن فتحنا الباب حتي اندفع جدي مسرعا يدخل ويغلق باب الشقة خلفه ويسرع إلي أبعد غرفة ويغلق بابها عليه وهو يقول:
- لا تفتحوا.. لا تفتحوا.
دق الباب مرة أخرى بالقوة ذاتها وجدي لا يزال يردد لا تفتحوا.. وفتحنا فإذا بخالي يدخل وينزل جسده منهكا على أقرب مقعد.
وعرفنا أغرب حكاية بطلها جدي وهو ليس راويها هذه المرة.
قال خالي:
- لا نعرف الذي حدث له.. منذ أسبوع يكلم أشخاصا أمامه، ويصر علي أنه يراهم ويكلمونه، ويصر أكثر على تحديهم ومخالفة أوامرهم.
تلفتنا إلى بعضنا البعض وخالي يكمل:
- ذهبنا به إلي أكثر من طبيب ولم يعرفوا العلة.
أطل جدي بحذر من الغرفة التي يختبئ بها ومن خلال فرجة صغيرة، قال:
-الحمد لله!!.. مشوا.
- من يا جدي؟
- فريدة وفهيمة.
- من هما؟
- فريدة أم فهيمة، والاثنتان تريدان الزواج مني.

انفجرتُ في البكاء.. ضاع جدي الحبيب، أصابه مس من الجن، يارب ارحم جدي الطيب الذي يحفظ كتابك ويردده ليلا ونهارا.

هدأنا جميعا مع صوت الله أكبر.. وأخذ كل منا يردد الأذان ويدعو لجدي بالحماية من كل شر.. وقام جدي مسرعا كعادته ليتوضأ، وأسرعت أفرش له المصلية، واستقبل جدي القبلة وقال:
- الله أكبر.
ثم توقف وقال لشخص في خياله.

«وبعدين» معك يا فريدة؟! أريد أن أصلي، أنت تعطلينني عن فرض ربنا.. لا والله لن أسمع كلامك، وفهيمة أيضا حضرت أهى، هيا يافهيمة خذي أمك وامشي.

ويستمر:
نعم.. نعم سأتكلم أمامهم.. لا لن أسكت وسأحكي لهم كل شيء.. ابعدي عني وأنا أسكت.. يا فريدة خذي بنتك وامشي من هنا.. خذي أمك يا فهيمة.. لأ.. قلت لك لأ.. لا أنت ولا أمك.. طيب سأقول لهم، والله سأقول لهم.. طيب امشي.. الله لا يسيئك امشي.. الله أكبر.. ياه مرة أخرى.. إذن لن أصلي ارتحت أنتِ وهي.. متشكر يا ستي مع السلامة.. الله أكبر.

وجوهنا جميعا ممتقعة بالدم، العيون فائضة بالدمع، القلوب منخلعة على الجد الحبيب.. وما العمل؟!
قالت أمي:
- العمل!.. لابد أن أحدا عمل له عملا.
- والحل.. يا أهل الخبرة؟!!
- الزار.. نعمل له زار يخرج العفاريت من «جتته»
هز خالي رأسه أسفا.. وقال الأمر لله.. نعمل زار.

دامت الاتصالات بين أمي وجارتها حتى عرفنا موعد الزار وفي أي بيت يكون، ولما قالت:
- هيا يا أبي.
 تشبث بي.. وتشبثت به.. فقالت أمي:
- لا مانع.. تعالي معنا.

 كان هناك شئ يشبه الهودج أو السرير «أبو ناموسية» يتوسط الغرفة، وكان الرجال والنساء يدورون حول هذا الشئ يتمايلون يمينا وشمالا، وهناك من يدق لهم علي الطبول، ومن يطلق البخور، وهناك من يرفعون أصواتهم من وقت لآخر بصياح مزعج أو بصراخ مفزع.. قالت لنا المسئولة التي جاءت بنا:
- اجلسوا بهدوء في هذا الركن، ولما تأتي الدقة التي تناسب قرينه سيقوم وحده ويندمج في الزار.

كاد قلبي ينخلع من هول المشهد، ويزداد دقه كلما تغيرت دقة دفوفهم، فتتعلق عيناي الممتلئة بالدموع بجدي، وأسجل في رأسي ملامح وجهه. 

أراه في كل مرة يزداد ضيقا وليست عيناي فقط اللتان تتعلقان بوجهه، فهناك عينا الكدية أو الوسيطة، وجدي لا يحرك ساكنا، وأخيرا قام.. قام ولم يتجه إلي وسط الحلقة كما هو متوقع، بل إلي باب الخروج، ونحن نسرع من ورائه.

تدهورت صحة جدي بعد ذلك وزاد حواره مع من يسميهما فهيمة، وفريدة.. خصوصا في وقت الصلاة.. ولكنه أبدا أبدا لم يترك فرضا حتى آخر صلاة صلاها وفاضت روحه الطاهرة وهو ساجد لله.

 أقام أخوالي سرادقا كبيرا في الشارع أمام البيت حضره جميع الأقارب وأهل الحي وامتد بهم الوقت إلى ما بعد منتصف الليل، يفرغ الصوان ويمتلئ بالناس الذين يحبون جدي، ويتبركون بسيرته.. ولما انتهت الليلة وصعد أخوالي إلينا، كنت لا أزال في حِضن أمي أبكي وأنهنه وهي تربت علي ظهري وتصبرني.

 توقف نحيبي لأسمعهم يتحدثون عن الشئ الغريب الذي حدث في سرادق العزاء، ويقسمون بالله أن سبع قطط سمان ناصعة البياض دخلوا إلى السرادق وراء بعضهم البعض. واستقل كل قط منها كرسيا على مرأى من كل الحضور الذين صاحوا في وقت واحد:
- الله أكبر.. الله أكبر.
جلس كل قط فوق مقعده في خشوع واستمع إلي ربع من القرآن الكريم، ثم نزلوا من علي مقاعدهم وراء بعضهم البعض و.. مشوا[1].


[1] مجلة أكتوبر- 12 أغسطس 2006./ موقع القصة العربية- 29 يناير -2007.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق