الثلاثاء، 14 نوفمبر 2017

وأخيرا تحقق حلم مريم | من المجموعة القصصية « إلكتــ.. رو.. مانسي»



وأخيرا تحقق حلم مريم
من المجموعة القصصية
 « إلكتــ.. رو.. مانسي»

    وقفتُ مشدوهةً أمام المشهد العجيب في مطار "طرابلس"، ظللتُ شاخصة دون حِراك ولم أشعر إلا ودموعي تنساب دون صوتٍ مني، ولما زاد الحال خرج صوتي وأجهشتُ بالبكاء على شيء لم أعرفه، وكما أن الضحك يُعْدي، البكاء أيضًا يعدي.. إذا بالنزلاء جميعًا -غادين ورائحين- يجهشون ببكاء حار.. 

    والمشهد الذي أبكانا: امرأتان في سن متقدمة جدًّا تحتضن كل منهما الأخرى وتبكي بحرقة، التي تتكلم اللهجة "الليبية" تنكبُّ على يد رفيقتها تقبِّلها، فتحتضن التي تتكلم اللهجة "الفلسطينية" رأس الأخرى وتقبلها.

وتسأل من خلال دموعك الواقفين بجوارك فتتلقى إجابات مختلفة:
- صديقتان من زمن بعيد تقابلا صدفة.                       
- ربما قريبتها أو شيء من هذا.
- ربما سمعا خبرا سيئا.
- ولكن كل واحدة منهما تتكلم لهجة مختلفة.!
وتتحدث شابة تشبههما معا قائلة:
- أمي وخالتي لم يتقابلا منذ ثمانٍ وأربعين سنة.
فَغَرْتُ فاهي، وذهني يردد بدهشة: ثمانٍ وأربعين سنة.!!

تطوع أحدهم وأجلسهما بعدما نال البكاء منهما مأربه وأجهد مهجتيهما العويل.. وجيء لهما بالماء البارد والمناديل الورقية.

خف الحنين قليلا وبدأت الناس في استجماع حاجياتها والانصراف، إلا المتطفلين، وأنا منهم.
لا تستطيع التخمين مَن منهما الكبرى لبعد الزمن بالاثنتين.. ولكن التي يحمل تجاعيد وجهها خريطة فلسطين تكلمت، بينما الأخرى التزمت التربيت على كتف أختها وظهرها، وتهز رأسها مرة بالموافقة ومرة بالأسف. قالت:
- العدو الصهيوني الله يخلصنا منه السبب، في سنة 48 كان عمري عشر سنوات، وكانت أختي هذه ابنة سنتين.

ضرب جنود العدو الباب بأقدامهم ودخلوا مشهرين السلاح في وجوهنا يأمروننا بالخروج وترك منزلنا وبلدتنا.. في البداية رفض أبي الانصياع وهب في وجوههم فهددوه بأنهم سيصفّون عائلته واحدًا وراء الآخر أمام عينيه إن لم يخرج بأسرته حالا. 

رفض أبي؛ كيف يترك داره وأرضه.؟! وأين يذهب ولماذا.؟! فإذا بجثة أمي تتدحرج أمامنا في الحال برصاصة الوغد الأشر. 

عندها استسلم أبي فحمل أخي إبراهيم ذا الست السنوات، وحملتُ أختي بعد أن وارينا جثة أمي التراب، وخلفنا موطن رأسنا ومعقل عزِّنا "المجدل" واتجهنا حيث يتجه المطرودون نحو غزة.

كنا نمشي بثقل نجرُّ أرجلنا ونحمل همَّنا.. نتلفت شمالا حيث تركنا أمنا وحيدة حزينة، ونتلفت يمينا فنخال أشجار التين والزيتون، وبساتين الكروم التي كنا نمرح تحتها أذرعا تنادي علينا: عودوا.. عودوا.. ولولا رصاصُ العدو المتطاير خلفنا يحثنا أن نسرع الخطى، ولولا النازحون بجوارنا وصوت بكائهم على بيوتهم وبساتينهم، لانفجرت أكبادنا.

سكنا ناصية شارع يقرصنا البرد ليلا، ويؤذينا الحر نهارا.. إلى أن تمكن أبي من بناء حوائط لنا من القماش والخشب والصفيح، وتكفلت الجارات بتدفئتنا بما يفيض عندهن من فرش وأوعية، وأحيانا يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة، وتكفل الرجال بالنظر في شؤوننا حتى تمكن أبي من الحصول على عمل مناسب يغنينا عن الحاجة.

كانت أختي طوال الوقت تلبد في حِضني خائفة أكثر منا ولا تكف عن البكاء، لا أدري إن كان على الثدي الذي فقدته أم على الأمان الذي ضاع منها.؟!
هل كانت تستشرف المستقبل أم تخشى المجهول.؟!
تحول أخي إبراهيم بسنواته الست إلى رجل يشعر بحجم الظلم ويستشعر المسؤولية، فكان كلما حاولت ضمَّه إلى صدري ينفر بعيدا ويقول: أنا رجل، أنا أحميكم من العدو. 

بعد ثماني سنوات صارت الطفلة فتاة جميلة فارعة ابنة عشر سنين، لا تغمض عيني ليلة إلا وليلى بالقرب مني، وأخي يدرس بجد واجتهاد وينجح كل عام بتفوق ويعمل بجوار الدراسة، وكنت أنا في الثامنة عشرة، أرفض العرسان من أجلها.. لكن أبي أرغمني على أحدهم.. وانصعت.

انتقلت إلى بيتي؛ عروس في يدها ابنتها.. رفضت بشدة إلا أخذها معي..

كان أبي يأتي ليأخذها تدفن رأسها في حضني وتقول:
- اتركني عند ماما مريم.
وإذا أخذها كنت أعود لأستردها مرة برضا أبي، ومرة رغما عنه، وإنجابي ابنتي لم يلهني عن ابنتي البكر –أختي- فلا يهدأ لي بال إلا وهي عندي، ولا أطمئن عليها إلا وهى تحت نظري، خاصة بعد أن تزوج أبي من امرأة فاضلة لها ذات الظروف.

 اضطر أبي أمام ضيق الحال إلى السفر للسعودية مصطحبا أسرته معه.
- زوجته وأختي وأخي- وبقيت أنا مع زوجي في غزة.
 أضاف فراق عائلتي لقلبي حزنا جديدا خاصة أختي؛ كان ألم فراقها أشد من آلام حملي المتكرر ووضع أولادي واحدًا تلو الآخر.. ولولا الاتصالاتُ التليفونية المتباعدة وبعض الزيارات السريعة ما صبرت ولا تصبرت. 

أنجب لنا أبي أخا جديدا يدعى محمد، وتزوج أخي إبراهيم واستقر بالسعودية فترة من الوقت، وتزوجت أختي وانتقلت إلى ليبيا، واعتبرها العدو لاجئة فلا يحق لها العودة إلى غزة ولا حتى للزيارة.. ثم فقدنا الاتصال.

 شدد العدو الخناق علينا أكثر فقطع الإرسال، وأغلق المعابر وفرض الحصار الجسدي والنفسي، وعدَّ علينا الشهيق والزفير.
 سنوات طوال طوال لم أسمع صوتها ولم أعرف أخبارها، مات خلالها والدي وزوجته بالسعودية ولم يصلني الخبر في حينه. 

وظلت الروح معلقةً بالمجهول حتى منَّ الله علينا بالهواتف النقالة.. ومن بعدها بالانترنت.
أجلست ابنتي تبحث عن أهلي.. تنشر الصور وتكتب الأسماء، وننادي عليهم.. أريد أن أعرِّف أولادي بأولادهم قبل أن أموت.. ولم يتوقف النداء حتى جاءتنا رسالة من شاب في كندا.. عرفت أنه ابن أخي أبراهيم وعرفت أنه انتقل وأسرته منذ مدة للعمل في كندا في وظيفة مرموقة. 

 عرفت منه عنوان وتليفون أخي غير الشقيق الذي يعيش في السعودية.. وأيضا عرفت طريق أختي التي تعيش في ليبيا مع بناتها، وعاد الأثير يحمل أنفاسنا وأشواقنا وكثيرًا من بكائنا.. ثم مات أخي الشقيق بكندا ودفن بها، وكنت لم أره منذ عشرين سنة.

 وتواصل السنون زحفها الثعباني الممل، وكبر الجسد ووهنت القدرة على الفعل، ولم يطفئ الحاسوب نار شوقي لأختي، وهنا ظهر هاجس جديد حطم البقية الباقية من قدرتي؛ وهو الخوف من الموت قبل أن ألتقي بها.

 ظللنا نتمنى اللقاء حتى تفتقت الفكرة في رأسينا.. لماذا لا نعد أوراقنا ونسعى لقضاء مناسك العمرة ونلتقي هناك في بيت الله الحرام وعند نبيه المصطفى "عليه الصلاة والسلام"، وأسرعت كل منا بإنهاء أوراقها وتهيئة نفسها.. وحان وقت التنفيذ، فإذا بمشكلة تنشأ على الحدود المصرية تتسبب في غلق المعابر بشكل متواصل، وهي المنفذ الوحيد لخروجنا من غزة، قلت لها: انتظري لا تخرجي إلا لما أخرج أنا أولاً. وأخرت ذهابها قدر المستطاع، والمعبر لا يفتح أبوابه، ثم ذهبت هي للعمرة على أمل أن ألحق بها. 

كلما مر الوقت واقترب موعد عودتها إلى ليبيا وأنا حبيسة المعابر يصيبني الهلع فأصرخ وأصرخ؛ صرختُ في مناشدة لخادم الحرمين الشريفين، صرخت مرة أخرى في مناشدة لرئيس مصر وقتها، ولا من مجيب، ولا جفاف لدموعي وحزن قلبي.

 أخرت أختي نفسها في بلاد المناسك قدر المستطاع واضطرها الوقت للعودة لبلدها تجر ضياع الأمل.
وفتح المعبر وخرجت متكاسلة محبطة أطوف وأسعى وفي كل حركة أتخيلها بجواري، وذهبت لبيت أخي من أبي والذي لم أره منذ ولادته حتى صار جدًّا، فقال لي: إنها قعدت معهم بعض الوقت لم تكفَّ عن البكاء.. بت مقتنعة أنه لا لقاء بيننا في الدنيا. 

لما صحوت من نومي على ثورة في تونس تمنيتها على حدودي لتكسر قيودي..
 وقامت ثورة مصر المحروسة.. وتنحى مجبرًا جاحد القلب المفسد في الأرض، المنفّذ لأجندة العدو دون خجل.
 ولكن لما قامت ثورة ليبيا اختلطت مشاعري ممتزجة بالخوف على أختي..
 العدو الصهيوني يقصف بطائراته وصواريخه سماء غزة فوق رؤوسنا ليل نهار، وحلف الناتو يقصف فوق رأس أختي في ليبيا بلا رحمة، وأنا أتضرع للمولى:
- من منا سيطولها القصف قبل الأخرى؟
متى يهدأ قلبي يا ربي.؟!! منذ النكبة لم يفرح.. أكثر من ستين عامًا في عذاب متواصل.!

 وأخيرا تحقق حلمي وتمكنت أختي -بمساعدة بناتها اللاتي تحملن الشهادات العليا ويتبوأن المراكز الأولى في ليبيا ويحملن جنسيتها- من طلب زيارة لي مدة شهر.

دبت في جسدي الحياة، تجاهلت مرض السكر بنوباته، وضغطة الضغط العالي بوعكاته، نسيت آلام الركبة ووطأة السن وهرولت مسرعة طائرة فوق الحواجز، أدعو الله أن لا يحبسني حابس حتى التقينا، و كان كما رأيتم، لقد ضممتها لحضني أخيرا كما كنت أضمها في طفولتها، وشممت رائحتها.

انقسم الناس بين مهنئ ومتصعب، ومن يلعن الحروب والاحتلال، ووجدت الصمت أبلغ كثيرا من الكلام، فشددت رحالي واتجهت نحو باب الخروج وفي رأسي العديد من الأسئلة. 

واحدة في السبعين والثانية تقترب من الثمانين.. هل سيلتقيان مرة أخرى أم أنها الأولى والأخيرة.؟!
فأم تموت بالمجدل الفلسطينية، وأب يموت بالسعودية، وأخ يموت بكندا، وأخت تسكن ليبيا وستموت بها.!!
هل كان بكاؤهما لوحشة اللقاء أم لعضة الظلم الغبي الذي لوع الإنسانية وشرد البشرية أربعا وستين سنة.!
سواء هذا أو ذاك.. المهم أنه أخيرا تحقق حلم مريم.!!

(نشرت بشبكة الألوكة 24 / 11 /2012)
وعدة مواقع ألكترونية أخرى،
ومجلة القصة، ومجلة حواء، ومجلة الرافد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق