جدي وجدتي
البداية
كان يراقبها وهي رائحةٌ غادية من وإلى المدرسة.. ابنة
الثانية عشرة، جميلة وصغيرة وقليلة الحجم والطول لكنها تحتكر كثيرًا من ملامح
الأنوثة المبكرة.. يلهبه التهاب خدَّيها من شمس الظهيرة، عشق سواد الليل وطوله
لأنه يذكِّره بسواد شعرها وطول رمشها، كان إذا شرب الماء تلذَّذ في شربه وكأنه
يمتصُّ رحيق شفتَيها الكريزتين، يقابلها عائدة تحجل في مِشيتها، تضرب الحجارة في
طريقها، وفي يدها شيكولاتة اشترتها من مصروفها، ولما اقتربت من الترعة وقفت تكمل
أكل الشيكولاته حتى فرغت منها، رمت الورقة ووضعت حقيبتها ونزلت حذرة لتغسل يديها،
فإذا بقدمها تنزلق وتسقط في الترعة، كان أول من رمى نفسه وراءها وأخرجها من الماء،
ولفَّها بشاله يحاول احتضانها، ثم مشى بها إلى بيتها وسلّمها لأمها التي ما أن
عرفت الحكاية وأكَّدها لها بعض نفرٍ مشوا معهما، وحتى هي أكّدت كلامه، فلهج لسان
الأم بالدعاء له والثناء عليه، فهو زين الشباب ابن الناس الطيِّبين أعيان البلد،
فردَّ عليها الشاب المحبُّ الشهم قائلاً:
- أنتم أيضا يا خالة أعيان البلد وهي ست البنات.
وظل حبُّه يكبر
وقلبه يزداد لهفة عليها، ولكنه الآن بعد تلك الحادثة يمكنه أن يكلِّمها:
- كيف حال ست البنات اليوم؟
- ما هي أخبار المذاكرة؟
- العام القادم تنتقلين للصف الأول الإعدادي؟
- ماذا تتمنين أن تصبحي؟
- انتبهي لا تنزلي الترعة إلا بعدما تتأكدين
أنني موجود.
وهو موجود بالفعل في ذهابها وإيابها.. وهل أحد يجهل
مواعيد المدرسة الابتدائية في القرية، التي يسمع جرس البداية.
والفسحة
والنهاية كل بيت فيها؟!
وانتهى العام الدراسي ووجد نفسه في ضيق من غيابها، ولا
يعرف سر عدم خروجها من الدار.
ولم يخطر بباله أن التي تخرج أحيانًا في صحبة ذويها
ملتحفة ومنتقبة تكون هي!.
ولما سأل أمه عنها أبلغته بالخبر، لقد بلغت مبلغ النساء
لذلك تحجَّبت شأن البيوتات العريقة في القرية يحجِّبن بناتهن فور حيضهن.
-وكيف ستذهب للمدرسة في العام القادم؟
-لن تذهب تكفيها شهادة الصف السادس، ماذا ستفعل بالتعليم؟!
البنت للزواج
أبدى الفتى رغبته في الزواج منها، ورحّبت أمه وأسرعت إلى
أم البنت تنقل لها رغبتهم في النَّسب، وسارعت الأم بدورها إلى أبيها تخبره الخبر..
ورنّت الزغاريد في بيت العروس الصغيرة المَخبية.
وجلس الأب والأم يمليان شروطهما على العريس
بالطبع ستأخذون بنتي إلى بيت عيلة، فيها سلايف تعملن في
البيت والحقل.. ابنتي مخبية لن تعمل معهن.. وهذه خادمتها معها تقوم بكل ما يجب أن
تقوم به ابنتي.. وأجرها عليَّ.
يوافق والدا العريس على الشرط؛ فهما يعرفان عادات بعض
البيوتات الثريَّة
.
ويسعد الولد بالكلام فهذا معناه تفرغها له، والائتناس
بها وقتًا طويلاً، فضلاً عن عدم إنهاك جسدها وتخشن يديها، وإصابتها بالترهُّل
والسمرة وكثير من الأشياء التي تصيب البنُّوتة الغضَّة بعد زواجها .
وجاءت العروس، وظلّت عروسًا تجدِّد حنَّتها لعام كامل..
لا أحد يعاتبها على نوم أو يقظة، لا أحد يسألها لماذا ولا يطلب منها فعلاً، ورغم
شرط أهلها الذين يتحملون شهريًّا أجر التي تقوم بدورها في خدمة البيت، ورغم أنها
عادة معروفة عند بعض البيوتات، فإن السلايف أصابتهن الغَيرة منها وامتلأت نفوسهن
بالحقد عليها، وكثر اشتباكهن مع أزواجهن، وكلما تعبت أجسامهن شاخت نفوسهن وزاد
الاشتباك، وبدأ المكنون يخرج بالوقيعة بين العروس وحماتها.. وظلت الحماة تتصيَّد
لها وتفتعل لها وتدبِّر لها.. حتى أمرت ابنها أن يطلِّقها.
- لماذا يا أمي؟! هي لم تفعل شيئًا.
- إما أنا أو هي
.
ورضخ الابن البارُّ على مضض، نفَّذ رغبة أمه ووضع عصاته
على كتفه ورحل من البلد.. يتنقَّل من بلد لبلد يعمل بيديه وعافيته لعله ينسى
حبيبته وأنسه الجميلة المظلومة المخبية التي ضاعت منه بسبب الغيرة والحسد.
وانتقلت العروس الصغيرة الجميلة المظلومة والمخبية، التي
أفسد حياتها غيرة وحسد وسوء كيل.. إلى بيت أهلها تحمل حزنها، وتجترُّ ذكريات عام
من الحب، ظاهرُه الحنان، وباطنه العذاب.
وكثر خطَّابها، كلهم من البيوتات الكبيرة، كلهم يتفهمون
عادات بيتها وشرط أهلها ويوافقون عليه، مادامت ستأتي ومعها خادمتها التي ستقوم
بالعمل نيابة عنها.
ووقع الاختيار على أحدهم، لكنه ليس بكرًا، وليس خاليًا،
هو يقتني زوجتين وعددًا لا بأس به من الأولاد، أراد زوج الاثنتين زوجة متفرِّغة
للحياة الزوجية، اشتاق للدلع والهدهدة، وإغاظة الاثنتين، وانتقلت لبيت الضراير بعد
بيت السلايف.
هل كان أحد يصدِّق أو يتنبَّأ أن الجميلة الصغيرة تملك
هذا الحظ التعس فيتكرر معها الفعل ذاته، هذه المرة بسبب طمع الزوج في ذهبها،
بإيعاز من زوجتيه.. سألها إياه لكي يزيد عدد المواشي في داره وغيطه، قالت:
دعني أسأل أمي فقد أوصتني ألّا أفرِّط في ذهبي دون
استشارتها.
أخذته العزة بالإثم؛ كيف تسأل أمها وهو الزوج الذي يجب
أن تطيعه بل وتعبده.. ألم تعلِّمها أمها كيف تكون طاعة الزوج قبل أن تعلِّمها
الحفاظ على ذهبها.. لتذهب لأمها إلى الأبد.
وتخرج الجميلة المخبية من بيت الضراير بعد عام آخر..
لكنها هذه المرة ليست خالية كالمرة الأولى، فقبل أن ينشف ماء ظهره ملأ رحمها
بنطفته.. مما يزيد همَّها ويستدعي حزنها وندب حظها كلما كبرت بطنها..
ثم وضعت طفلتها الجميلة؛ تأخذ ابنتها في حِضنها تسقيها
صبر نفسها وذكرياتها بحلوها ومرِّها..
طار الخبر إلى حيث الهاربُ من الحياة بأن ست البنات قد
طلِّقت فعاد مسرعًا يجدِّد العهد بها.
قال له أبوها:
- ليست وحدها هذه المرة؟
قال:
ابنتها قبلها
- وأهلك وغيرة زوجات إخوتك.
- سآخذها بعيدًا عنهم جميعًا.
في حيٍّ من الأحياء الجديدة بالقاهرة وقتها، ثم صارت من
الأحياء الراقية بعدها، حطَّا الرحال.
باعت ذهبها وشمَّرت عن ساعديها لتسابق العمال في بناء
البيت.
شقة كبيرة وحديقة أكبر يغلق بابها في وجه الأشرار، تلاعب
خلفه طفلتها.. أمي، التي كبرت وصخبت وملأت البيت فرحًا، طفلة تشبه أمها، تسعد بما
يجلبه لها زين الشباب، جدي من لعب وملابس، وما يشملها به من عطف وحنان، ووعد بأن
يظل يحبها ربما أكثر من الجنين الذي تكوَّر في بطن ست البنات، جدتي[1]..
1]) القاهرة في: 28 أبريل 2016.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق