الخميس، 16 نوفمبر 2017

الخاتم



الخاتم

 أخذ يراقبني باهتمام حتى تنبَّه الجيران، الأحباب منهم والأعداء، والحاضر أعلم الغائبَ همسًا، حتى وصل الهمس إلى أذن أمي فجاءت تسألني في هدوء وثقة.
- هل أنت على علاقة بسامي؟
- من سامي يا أمي؟
 الجار الجديد في الشقة المقابلة.
- وهل طنط فاطمة عزّلت؟
- هي عمَّته، وهو ضيف، والحال سيطول، والناس تكلّمت.
 - تذكرت يا أمي!! لقد لاحظته عابرًا لا أكاد أميِّز ملامحه، ولم أعرف من أي شقة هو، ولم أتذكره لأسأل من هو.

 صدَّقتني أمي فبهذه الصراحة نتحاور دائمًا، الحمد لله الثقة بيننا لا يشوبها شائبة حتى الآن.. وبدأتُ أحسُّ بهذا العابر، أو هذا الضيف عند عمته، فقد رأيته عدة مرات ولم أعره انتباهًا، تقريبا مواعيد عملنا متفقة فأراه في الصباح أمام بابَيْ شقَّتينا، حيث يلقي أحدنا بالتحية على الآخر وينصرف كل إلى حال سبيله ولا أكثر، وغالبًا ما ينتظر هو مكانه حتى أغادر أنا البيت قبله.
وبدأتُ أنتبه لهذا الشاب واكتشفت بالفعل أن تصرفاته غير طبيعية، لا تدل على أنه إنسان ناضج قد أنهى دراسته، ويمارس عملا ذا قيمة، ففي الصباح يفتح باب شقته بعدما أفتح أنا بابي بالضبط، تَكرار هذا يؤكد تبييت النية والقصد، يلقي بتحيته وينتظر إلى أن أغادر البيت ويتبعني خفية حتى أصل إلى مقر عملي.
 كانت التفاتتي المفاجئة هي المفتاح الذي حل لي اللغز، لغز الغمز واللمز، والقيل والقال، لم يكن يتوقَّع رؤيتي له، فطوال المدة السابقة لم يرني ألتفتُ مما جعله يدع الحذر ولا يخشى قرب المسافة.
 رأيته فبدا عليه الحرج وحاول الهرب.. ناديته.. وقف مكانه، واقترب على استحياء، بادرته بالسلام ثم خاطبته بلهجة رقيقة ولكنها آمرة أن يرجع عن تلك التصرفات؛ فهي لا تليق به، وقد سبَّبت لي المتاعب.
 اعتذر في رقَّة ووعدني ألا يعود إلى مثلها، ولكنه أصرَّ أن يبرِّر لي أسباب تصرفاته حتى لا أتَّهمه بالسفه، وقبل أن آذن له أخذ يسرد تفاصيل إعجابه بي، وما أصابه منذ أن رآني أول مرة ورغم أنه يقترب من الثلاثين، ويشغل منصبا مرموقًا ويبدو ناجحا في عمله، فإن طباع الريف ما زالت مسيطرة على تفكيره، فهو يخشى أن يفاتح والده في أمر زواجه من فتاه اختارها وأحبها، وهو الذي أعد له ابنة أخيه، وقد خطبها له بالفعل وقرأ الفاتحة دون أن يستشيره في الأمر.
كنت أسمع كلامًا غريبًا ما تخيَّلت أنه لا يزال يمارس في العائلات الريفية رغم أنهم يعلِّمون أولادهم حتى الجامعات، ورضخ الشاب العصري المتعلِّم الموظف لرغبة والده، واكتفى بالنظر إلى من يهواها من بعيد..
نصحته بطاعة والده ورجوته أن يرحم سمعتي من ألسنة الناس وانصرف بعد أن ازداد ارتباكًا من كثرة ما قدَّم من اعتذارات.
نفّذ سامي وعده، وما عدت أراه.
 وما صرت أنا كما كنت، فقد تغيّر فيَّ شيء، إحساس جديد سيطر علي، أشعر بشوق لرؤيته، تمنَّيت ذلك بإلحاح، ولكن أين هو؟! اختفى تمامًا من أمامي، ترك بيت عمته لا أدري إلى أين ولماذا، وتمنيت أشياء كثيرة، وحلمت كثيرًا، ويبدو أن الله استجاب لرجائي حين فوجئت بعمته تدعوني إلى زيارتها لأمر مهم.
 ذهبت إليها وكلي أمل أن أعرف شيئًا عن أخباره، وعرفت أكثر، مما أريد أو أتوقع؛ عرفت ما أصابه من جرّاء بُعده عني، عرفت حبًّا عظيمًا يحمله لي، عرفت إصراره الشديد على مواجهة والده وعمه وابنة عمه وكل العالم من أجل الارتباط بي.
 كنت أستمع مذهولة ومنتشية في آن واحد، ثم سألتني عمته:
- هل ستقبلين به إذا تقدّم؟! وهل ستتحملين معه عادات عفا عليها الزمن لكنها موجودة؟!
 لم أحر جوابًا، عقدت الفرحة لساني، فلزمت الصمت، وتملَّكني الخجل، ولكنها فهمت، فلا يزال السكوت علامة الرضا، وربما سمعت ضربات قلبي، فقالت:
- مبروك سامي ابن حلال إنسان ملتزم ومكافح ويقدر المسؤولية، أسرعت من أمامها هربًا بعيني حتى لا تبوحا بالمزيد، وتركتها تكمل صفاته التي تتمناها كل بنت.
 أخبرت أمي بنتيجة المقابلة، وأنه ليس عندي مانع من الارتباط به، ومرت فترة لا أذكر طولها وأنا بين الأمل واللهفة كتلميذ يتلهّف على إعلان نتيجة امتحانه، وطال انتظاره فتطرق اليأس إلى النفس.
 وذات يوم كنت أهبط الدرج أجرُّ ببطء وتثقل رأسي الهموم، إذا به واقف أمامي، كانت فرحته تسبق كلماته وتشعُّ البهجة من عينيه، وتلوِّن البسمة شفتيه، وترقُّ النغمة على أوتار صوته، ما رأيت من قبلُ كل هذه البراءة في عين، ولا كل هذا الحنان في قلب، رآني فكأنه وجد دينه وهداه، هتف:
- ليلى.. حبيبتي، انتهت المشكلة أخيرا، استطعت إقناع والدي بزواجنا، وافق وهو يريد مقابلة والدك، هيا لا تضيعي الوقت، هل والدك موجود لأحدِّد معه موعدا؟.. أريد أن أخطفك منه، ولن أنتظر ردَّه.. وجذبني من يدي وهو يواصل كلامه قائلا:
- سأضع هنا خاتم زواجنا.
 وفجأة تغيَّر كل هذا، توقَّفت الكلمات في حلقه، وانطفأت لمعة عينيه وقد تسمَّرتا على يديَّ، تاهت لهفته واحتلَّت أمارات الحزن والدهشة صفحة وجهه.
 حاولت أن أبتلع غصَّتي وأسأله ماذا حدث، فلم أستطع، ترك يدي في هدوء وهو يتمتم مختنقًا يبدو أنني وصلت متأخرًا، مبروك يا ليلى ألف مبروك.
 عاد سامي يجرُّ قدميه وهو يهبط الدرج خائرًا، تسرَّب من أمامي وأنا في ذهولي من هذا التغيير المفاجئ، واختفى صوتي فلم أستطع أن أناديه لأستفسر عن السبب.
 ما أثقلَ الأيامَ والليالي حينما تحيط الإنسان باليأس والغموض، وسؤال ليس له جواب، كل شيء حولي تلوَّن بلون الغموض وطعم الألم، ساعات طوال تمرُّ على وأنا أحملق في يديَّ ذاهلة، ذات اليد التي تغيَّر وتلوَّن عندما حملق فيها، فلا أجد شيئًا غريبًا يريحني ويخرجني من حيرتي، فتزداد حيرتي وعذابي.
ولو اقتصر عذاب الإنسان على نفسه لهان الأمر، ولكن للوالدين مفاهيم أخرى وعيون ترى مهما حاولت التجمُّل أمامهما بعدم المبالاة.
 لجأت لعمته أستفسر منها، فلم أجد عندها جوابًا شافيًا، ولاحظت أنها تخفي شيئًا عندما قالت:
-الزواج قسمة ونصيب.. فانطفأ آخر أمل رجوته.. ومرَّ عام وزيادة، وأنا على حالي أرفض العرسان وأتساءل بيني وبين نفسي أين هو؟ وصارت حياتي روتينية مملَّة بين الذهاب إلى العمل والعودة منه.
 ووجدته أمامي عند باب الشقة المقابلة، يحمل طفلا رضيعا وبجواره ما أظنها زوجته ووالدة الطفل. رآني فأسرع يضرب الجرس وتفتح عمته.. استقبلتهما بترحاب وأنا متسمِّرة مكاني ذاهلة مما أرى.. فقالت عمته:
-أهلا يا ليلى تفضَّلي.. هذا سامي ابن أخي وزوجته وابنه.. زوجته أيضا ابنة أخي الثاني.. تفضَّلي تعرَّفي عليهما.
كان سامي قد أسرع بالدخول والاختفاء بابنه بينما زوجته واقفة تستمع لكلام عمتها، وهي تقدمني لها:
- وهذه ليلى جارتنا من زمن بعيد.. نعم الجيرة والأهل.
مدّت زوجته يدها تسلِّم على وتدعوني لدخول الشقة فساقتني قدماي تلبية لدعوتها.. نادت عمته:
- تعال يا سامي سلِّم على ليلى جارتنا.
خرج سامي من غرفته مرتبكًا محاولاً تصنُّع ابتسامة قائلا:
- أهلا أستاذة ليلى.. تفضَّلي لماذا أنت واقفة؟!!
 تسمّرت عيناي على يده التي يحيط بأحد أصابعها خاتم زواجه، وبحركة لا إرادية فركت أصابعي وأدرت الخاتم فبرقت عيناه وفغر فاه.
(القاهرة في 1987)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق