أمي
فطرة
الله
انتبهت عيني لتراها صابرة محتسبة، متحملة لأجلي.. تربت
في بيت زوج أمها، ورغم أنه كان رجلا فاضلا، أحبها وأغدق عليها من عطفة؛ كرامة
لأمها تارة، وتارة أخرى لأنه لم ينجب سوى ثلاثة ذكور فكانت فاكهة البيت ونوّارته.
لا أدري ما السبب الذي يجعل طفلا
يشعر باليتم لغياب أحد والديه إذا عوضه الله ببديل يتولى أمره بحب ورعاية واتقاء
لله.. { ِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }[الروم:30]
هذا ما فهمته،
رغم صغر سني من رفضها المستمر الانصياع لنصائح إخوتها، بترك أبي وتطليقها منه، رغم
ما كان عليه من نزوات لا تبالي بها، وعثرات تتحملها، وأحيانا غلظة في معاملتها فتصبر،
وسمعتها أكثر من مرة تقول:
- لا أترك ابنتي تتربى في بيت زوج أم أو زوجة أب.
وابنتها هذه هي أنا، حيث إنني الكبرى وما بعدي ذكور..
وإذا قيل لها:
- لقد كان زوج أمك نعم الأب، تقول:
- من أدراني أن يتكرر النموذج.
كلما تفتح وعيي
وزاد إدراكي، اكتشف فيها صفاتٍ أخرى غير الصبر، أكتشف أنها ذكية لمَّاحة لبقة رغم
قلة تعليمها.. ثم وجدتها حكيمة حصيفة رغم قلة اختلاطها.
كانت تزورنا
جارة عجوز، وكنت ألاحظ كلما بدأت تلك الجارة في الحديث أجد أمي تقاطعها برقة
محوِّلة دفّة الحديث إلى متاعب الأولاد ومشكلاتهم التي لا تنتهي، وكيف أن لكل
واحدا منهم مزاجه الخاص، ثم تنادي عليّ قائلة:
- هاتِ صندوق الأحذية.. فأسرع وأضع الصندوق أمامهما،
وتظل أمي تمسك بأحذية إخوتي الصغار وتناولها للعجوز قائلة:
- هذا جديد كما ترَين ضاعت فردته الأخرى، وذاك ضاق على
قدمه، والثالث غضب عليه لأنه يؤلمه إذا لبسه.. وهكذا حتى ينتهي وقت الجارة
وتنصرف.. ويتكرر الأمر ويتكرر كلما حضرت تلك الجارة حتى فاض فضولي فسألت أمي عن
تصرفها الغريب.. فكانت إجابتها مفاجأة لي:
- هذه المرأة نمّامة؛ تحب أن تغتاب الجيران، فكلما جلست
في بيت لا همّ لها إلا نقل سيرة الناس والجيران، أليس الحديث في الأحذية أفضل من
الخوض في سير الناس؟!
ورثت عن أمها عقدًا من الذهب، فكانت تلبسه دائما فرحة به
تخبر كل من يراه أنه من رائحة أمها.. كنا نعلم كم تحب هذا العقد لصفته المعنوية..
وذات يوم وجدتها تقول لي بهدوء:
- العقد ضاع.
- كيف ضاع يا أمي وهو لا يفارق رقبتك.
- أكيد انفتح قفله وسقط.
- يا خسارة.
- ليس على الله خسارة.
اندهشت لردها وهدوئها.. فقلت:
- هو أيضا ذهب يعني له قيمة مادية، عند وجود المشكلة
يستطيع حلها.
ابتسمت وقالت:
- إذًا فقد ذهب بمشكلته.
هذه الأم بما هي
عليه من ثبات وعقل لا أدري ماذا أصابها؟
منذ أن شبَّ عودي، وتدورت أعضائي، وانتقلتُ للصف الأول
الثانوي، وقد انتابها القلق.
لماذا يا أمي؟! ابنتكِ عاقلة، ولن يقدر أحد على خداعها..
تربيتك أنا وأحفظ تعليماتك جيدًا.. ثم إنني أحبك، ولا أتصرف إلا وَفْقَ ما يرضيك..
وتُسرِّين به.
تارة أجدها
هادئة مطمئنة، وتارة أجدها تتلفَّت حولي تحدق في عيني، تفتش كتبي، تتشمم عطري،
ترفض أن أزور صديقة لي أو أخرج لأي سبب بعد المدرسة إلا بصحبتها، تفتش في ضمير أي
صديقة تأتي لزيارتي.
هذه لا
تصاحبيها، وهذه البنت بها لؤم وخبث لا أرتاح لها، حتى الصديقة التي اختارتها
بنفسها ورضيت عنها وقررت أن أصاحبها، إذا طلبتُ زيارتها في الأجازة لا أجد إلا
الرفض.
أتذكر حين كنت في الأجازة الصيفية وتضايقت من قعْدة
البيت وطلبت منها أن أذهب لصديقتي المفضّلة لديها، وبيتها قريب من بيتنا.. نادت
على أخي الصغير، وقالت له:
- اذهب وقل ل (...): تعالي كلِّمي ماما.
ولما أتت البنت
في حالة من الهلع تظن أنه قد حدث لي مكروه، إذا بها تقول لها:
- اقعدي مع صديقتك بعض الوقت، أوحشتيها.
كنت أتجاوز كثيرا عن تصرفات أمي في التضييق عليَّ..
وبعقلي الراجح ألتمس لها العذر.. أمٌّ وتخاف على ابنتها بطريقتها؛ ما باليد حيلة!
وكانت الطامة الكبرى بالنسبة لها.. سافر الجيران في
البيت المواجه في إعارة للزوج.. وجاء ثلاثة شبّان من أقربائهم يدرسون بالجامعة
يسكنون شقتهم حتى يعودوا من السفر.
أول ما فعلته أمي هو أن نقلت مكان غرفتي إلى غرفة
داخلية.. ثم زاد متابعتها لكل لفتاتي وتصرفاتي.. كدت أنهار من فعلها؛ لولا أنني
أصبِّر نفسي بنفسي فأهدأ..
ذات يوم نظرتُ من النافذة فوجدتها هناك.. نعم وجدت أمي
في شقة الشباب تحمل معها كيكة صنعتها لهم، ذهبت لتتعرف عليهم وتطمئنهم أنها هنا
مثل أمهم، وأي طلبات وأي خدمات، وكله من أجل صديقتها الغائبة صاحبة الشقة، التي هي
عمة بعض الشباب وخالة البعض الآخر.
- لماذا يا أمي فعلت هذا؟! تتكلفين خدمة هؤلاء وترسلين
لهم من آن لآخر بعض الطعام!! ما لنا بهم؟! قالت:
- أطعم الفم تستحي العين.
لم أفهم كلامها.. ولكنني لاحظت أنه كلما تصادفت في
الطريق مع شاب منهم، أجده يغض الطرف ويتنحى عن طريقي.. وذات يوم كنت عائدة من
المدرسة مع زميلتي، تطفل علينا بعض الشباب الذين يقفون أمام باب مدرسة البنات في
موعد خروجهن.. كان من بينهم شاب أكثرهم سماجة وسخفًا، لم ينفع معه زجر ولا هش ولا
صراخ.. فجأة انزرع أمامي الشباب الثلاثة، يرفعونه من كتفيه ويلقون به بعيدًا
ويحذِّرونه الاقتراب مني، أو من أي بنت تمشي معي وإلا سيبيت حينها في الجبس[1].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق