معزوفة أبدية
الطريق من دار
عمتي إلى حقلها ليس بالقصير، ولكن المهمة التي تطوعتْ للقيام بها قصَّرت المسافة
معنويا رغم أنها أطالتها زمنيا.
فقد قررتْ أن تذكرني بأهلي وأقربائي، وتشرح لي النسب
والسلسال من قديم القديم.
صحيح أن الوجوه قد تغيرت بحكم الزمن لمن أعرفهم لكن
الطريق ذاته، والمناخ لم يتغيرا بشكلٍ ملحوظ.
فقد شعرت بالسكة التي مشيت بها كثيرا صغيرة وشابة.
أخيرا وصلنا الحقل وفي حِضنها حمل الحطب.. ألقته بجوار
الكانون.. قلبت قفصا وطوت جلبابا عدة طيات وضعته فوقه وقالت:
- اقعدي يا ابنة الغالي.
درتُ بعيني في المكان وقلت لها:
- يا عمتي؛ لك دار وعندك بوتاجاز لماذا لا تطبخين هناك؟!..
ردت ببساطة:
- سلو بلدنا يا ابنة أخي.. اقعدي.
تجلس القرفصاء، تمد يدها في فتحة «سيالتها» تخرج علبة
الكبريت.. المشهد رأيته مرارا وكنت وإخوتي صغارا نضحك ونقول لعمتي:
«في جيبك خُرج الحاوي»
لكنني أنظر الآن بتأمل مختلف.. أتأمل يدها وهي تسحب من
الحطب عودا بعد عودٍ وتدفسه في اللهب فيزيد اشتعاله، فيسرع القدر بالغليان
والبقبقة.
ملامح يدها نفسها من حيث الهمة.. أما بضاضة صباها فقد
شربها الزمن الذي لا يرتوي، وترك لها الجفاف والعروق والسمرة.
تدفس العود في الكانون بإرادة فطرية تدخل يدها إلى قلب
اللهب فتخرج أكثر ثباتا وعزيمة، تشير بإصبع واحد إلى ابنتها فتفهم ماذا تريد.. هي
الآن تشير بنفس الأصبع إلى زوجة ابنها فتسرع وتأتى لها بدجاجتين.
تضع عمتي يدها في سيالتها.. خمنت بأنها ستخرج السكين..
صدق حدسي.. تنهض لتشحذه على حافة حوض الطلمبة الإسمنتي..
تأملت الحافة وما عليها من خدوش.. ترى هل تفصح جروحها عن
عدد المرات التي ذبحت فيها عمتي دجاجا؟!
تهم زوجة الابن لتساعد عمتي في عملية الذبح.. فوجئت بها
ترفض وتطلب مني مساعدتها:
- امسكي معي يا ابنة الغالي.
- أنا يا عمتي!!
- نعم يا الحبيبة.
وقبل أن أتلعثم كانت قد دفعت إلي بالدجاجة الأولى قائلة:
- امسكي ساقيها وجناحيها هكذا بيد، وجلد رقبتها باليد
الأخرى هكذا.. بسم الله.. الله أكبر.
في لمح البصر شاهدت الدجاجة تتخبط في كل اتجاه، وكنت
أكثر ثباتا وأنا أمسك معها بالدجاجة الثانية، لتتسلم من الأولى رقصة الفرفرة التي
تمارسها الدجاجات المذبوحات على مر الزمن قبل السكون.
تعدل عمتي الطست الذي أمامها، تغمر الدجاجة في الماء
المغلي وترفعها بسرعة وتبدأ في نتف الريش واستثمار الوقت في التحدث معي:
- لك كم سنة لم تنزلي البلد.. قلتُ أذكرك بما نسيتِ.
- الظروف يا عمتي.. الأولاد في مدارس، وأنا في شغل، وأنت
تعرفين مسئوليات البيت.
- ولا حتى تغيري هوا.. ألا تأخذين الأولاد في فسحة؟!
انزلي بهم البلد.
- حاضر يا عمتي ربنا يسهل.. ماذا قلت في الموضوع الذي
جئت له.
- نأجل يا حبيبتي الكلام لبعد الغدا، وشرب الشاي.. هي
الدنيا طارت.
- يا عمتي أنا تاركة الأولاد وحدهم، قلت لهم مسافة
السكة.
- غلطانة يا حبيبتي.. كنت أتيت بهم معك، حتى يعرفوا
بلدهم وأهلهم.. من يوم ما تزوجتِ لم ترى البلد.
- حاضر يا عمتي.. أوعدك أحضرهم إن شاء الله.
- الله يرحمك يا أخي لم تأتِ بهم وهو موجود تأتين بهم
بعد ما راح!!
تنادى على زوجة ابنها:
- لمى الريش حتى نكمل «المخدة».
يا إلهى أما زالت تكمل الوسادة أم صار لعمتي مصنعا من
وسائد الريش!!
تجيء زوجة الابن تحمل كيسا منتفخا تضعه إلى جوارها ثم
تجمع ريش الدجاجتين في حجرها وتقوم.
تشق عمتي بطن الفرخة وتخرج أحشاءها.. تلقي بها يمينا
تجاه البط، أتأمل طابور البط وهو يأتي متبخترا في مشيته ثم متبغددا في التهامه
للأمعاء.
مشية البط في دلال يذكرني بابنة عمتي الصغيرة وكنا نقول
لها يا بطة.. وكانت ممتلئة وتمشي تتخايل.. المشهد لم يتغير ولكن دهشتي أنا هي
المثيرة للدهشة.. الآن المشهد لم يتغير، ولكن داخلي هو الذي تغير.
تواصل عمتي عملها بهدوء وهمة.. تقف منحنية وتمسك بالحلة
التي فوق النار بطرف جلبابها.. تدلق ماءها في الطريق، تمشى قليلا إلى الطلمبة
تغسلها وتملأها بالماء النظيف، تعود وتضعها فوق الكانون من جديد.
على ما غلى الماء كانت عمتي قد انتهت من تنظيف الدجاج
وتقطيعه بعدد لا يحصى من القطع، تضع قطع الدجاج في الحلة وهي تسمي الله، ترجع إلى
الوراء قليلا تمد جسمها وهي جالسة في مكانها وتعود بالبصلة.. ضحكتُ:
- زمان كنت تخرجين البصلة من جيبك.
تقول وهى تلقى بها في الحلة:
- كل وقت وله أذان يا ابنة أخي.
- ولماذا تعارضين في بيع أرضي يا عمتي ما دام الزمن قد
تغير.
- قلت لك بعد الغدا نتكلم.. مالك لا تصبرين!!
الهدوء الذى تتحدث به عمتي والتسويف كلما جاءت السيرة..
يثيران في نفسي توجسات لا أستطيع تحديدها.. فقد أعددت نفسي لرفض اعتراضها على بيع
أرضي التي ورثتها عن أبي وهي في حوزتها، وأعرف مسبقا ماذا تكون حجتها؛ فهي كلمات
تردد منذ آلاف السنين.
«الذى يفرط في أرضه يفرط في عرضه»
«والأرض كالذهب كلما بقيت زادت قيمتها»
كنت قد أعددت صيغة الدفاع المقنعة مشفوعة بقدر من
التصميم.. لكنها لم ترفض، ولم تقبل هي تسوف.. بعد الغدا نتكلم.. ليكن.. جاءني
صوتها:
- فيما سرحت يا ابنة أخي؟
- لا شيء يا عمتي.. لا شيء.
مازالت خزنتها «سيالتها» عامرة، تخرج هذه المرة ورقة
ملفوفة بها ملح وفلفل تفرغها فوق الدجاج، وتغطي الحلة.
قلت لها:
- يا عمتي دخان النار طالع على الحلة!.. قالت:
- لا تخافي يا حبيبتي، عمتك أكلها سكر.. كنت زمان تحبين
أكلي أنسيتي!!
- لم أنس يا عمتي.. لكن أخذتني دوامة الحياة.
- دوامة الحياة تنسيك حق أولادك عليك؟! على الأقل يعرفون
البلد كما كنت وأنت صغيرة تأتين في الصيف.. أسأل عليك يقولون في الإسكندرية ما
البلد مثل الإسكندرية وأحسن.. والآن جئت لبيع الأرض.. حتى تنقطعي تماما عن أصلك.
- يا عمتي المعيشة في القاهرة مرتفعة جدا وأبي الله
يرحمه كان يساعدني.
- ومن أين كان يساعدك، أليس من الأرض!! ماذا تغير! الأرض
موجودة وهي أيضا تساعدك.. على كل حال بعدما تأكلين آخذك لتشاهدي غيط أبيك ربما لا
يهون عليك.
أراحت عمتي مؤخرتها على الأرض وأتت بالكيس وأفرغت ما به
في حجرها، وأمسكت بالغربال المكفي فوق مشنة العيش.. تابعتُ العملية التي استدعت
ذاكرتي تفاصيلها من ماض بعيد، عرفت أن استعادة الشيء البعيد يجعلك أكثر فضولا من
مشاهدته لأول مرة.. ولكن هناك ما يجعلني أكثر دهشة.. ربما الهمة التي لا تزال
عليها عمتي ليس فقط في يديها، ولا في بدنها بل في إرادتها.
تأخذ مقدارا من الأرز الذي في حجرها، تضعه في الغربال،
تطوح به بمهارة ورشاقة وهي تنفخ، فيتكوم الأرز الصحيح في ناحية أما القشر والأرز
المكسر فيتجمع في ناحية أخرى، وبحركة ماهرة ترفع عمتي الغربال فيخرج الجزء غير
المرغوب فيه في الهواء تسحب الغربال من تحته فينطرح على الأرض شمالا.
في لمح البصر تجيء الدجاجات والكتاكيت تجري وتلتقط كسر
الأرز الذي طوحته.
وضعت عمتي الجزء المغربل في صينية وأخذت تكرر العملية بالمهارة
نفسها حتى انتهت، ثم بدأت تقلب الأرز بيدها يمينا وشمالا، تصطاد حصوة أو قشة..
قلت:
- نقى الأرز حبة حبة يا عمتي.. قالت:
- صلى على النبي يا ابنة أخي (بخشالته يربي رجالته)
- ياه يا عمتي مازلت ترددين هذه الجملة؟
- هي لغتنا يا ابنتي.
نزلت حمامة وقفت على حافة الصينية تلتقط الحب.. لا عمتي
هشتها ولا الحمامة وجلت من حركة يدها.
راعتني الألفة العجيبة بينهما.. فاستسلمت للمشاهدة حتى
سمعت صوتها:
- فيما أنت شاردة؟
كانت عمتي تأخذ بالكوز من صفيحة بجوارها ماء نظيفا وتضعه
على الأرز ثم تهم قليلا على مقدمة قدميها وتأخذ في دعك الأرز بكلتا يديها، تنتشل
الأرز في حلة أخرى عدا القليل منه تبقيه في قاع الحلة، تدلق الماء مطوحة به على
الأرض، فتسرع الأرض بشرب الماء، وتسرع الدجاجات بإلتقاط الأرز، فهى على الأهبة من
بداية العملية.
- ما رأيك.. أيعجبك هذا الغسيل أم أشطفه مرة أخرى؟!
- سلمت يداك يا عمتي.
عمتي الآن ترفع قطع الدجاج التي نضجت من الحلة وتضعها في
صينية بجوارها وتغطيها بالمنخل الذي أدى مهمته منذ قليل ثم تنهض نصف وقوف وبذيل
جلبابها تنزل الحلة الساخنة وتبحث عن الحلة المخصصة لعمل الأرز.. وجدتها غير نظيفة
استدارت وهى القرفصاء ومشت خطوتين في المكان تجمع عدة قشات، أما الخطوة التالية
فكانت لالتقاط الصابونة.
بقليل من الماء والوقت غسلت الحلة ووضعتها فوق الكانون،
أخرجت الملعقة من «سيالتها» غرفت بها السمن البلدى من قدر فخارى غطته بغطاء فخارى
فوقه قماشة تربط بطرفها عنق القدر.
قلَّبت الأرز بالسمن ثم وضعت فوقه مرق الدجاج بمقدار
تعرفه.. غطت الحلة وقالت:
- لما أقشر الثوم حتى تأتي البنت بالملوخية.
أخرجت عمتي رأس الثوم من سيالتها.. ربعت ساقيها وشدت
جلبابها تحت فخذيها فأصبح حجرها مسطحا كالطاولة.. استدارت قليلا في اتجاه الريح،
وبدأت في تقشير الثوم.. تمت العملية في سيمفونية رائعة بينها وبين الهواء.
القشر يطير بعيدا بعد أن يرتفع ويدور قليلا في الهواء.
عزفت أصابع عمتي والهواء وقشر الثوم الناصع البياض
معزوفة رائعة شدت انتباهي وإعجابي معا، فهو مشهد في رأسي من قديم تجدد عهده اليوم،
المهم أن حجرها يظل نظيفا طوال مدة التقشير.
لما انتهت عمتي من المهمة رجعت عن استدارتها التي فهمت
مغزاها الآن.. وفي التو جاءت زوجة الابن بالملوخية، أسرعت عمتي بفرد قماشة نظيفة..
وضعتها عليها وبدأت في عملية التقطيف وتضع في حجرها بعد أن لمته وأسقطته بين
ركبتيها اللتين رفعتهما قليلا، حجرها الآن غويطا يستقبل أوراق الملوخية ولا
يطيرها، أما العيدان فكانت من نصيب الأرانب والغنم.. قلت لعمتى:
- الملوخية في حجرك يا عمتي بدون غسيل!! قالت:
- ثوبى نظيف ياحبيبتي لبسته من على الحبل والملوخية من
الغيط حالا.
لما أتت عمتي على آخر عود أتت بالحلة والسكين وبدأت في
تخريط الملوخية..
معزوفة أخرى تحبس أنفاسي وتثير شهيتي لمعايشة نوع من
القلق اللذيذ.
تأخذ عمتي بقبضة يدها أوراق الملوخية وباليد الأخرى
تحزها بالسكين في مهارة وسرعة متوالية.
ظل قلبي يرجف وأنفاسي تشهق؛ شهقة مكتومة وراء شهقة مع كل
حز تحزه عمتي في الملوخية تحسبا لإصابة يدها بحد السكين وإسالة الدم على الملوخية،
ولكن هذا لم يحدث وما هي إلا دقائق، وإذا بعمتي تجمع الملوخية الناعمة تماما وتبدأ
في طهيها.
هززت كتفي في استسلام وأغمضت عيني اللتين تعبتا من
التحديق حتى لا تفوتني لمحة مما تفعل.
أسدلت جفني وانشغلت مع أفكاري فإذا بصراع وجدل يمزقني
ويجعلني أتساءل بيني وبين نفسي:
«كيف مرت كل هذه السنوات ولم أنزل إلى البلد رغم أنني
كنت أحب ذلك كثيرا في صغري؟!!
«وكيف أحرم أولادى من الانطلاق في هذه الأجواء الشابة
التي أصقلت شخصيتي ونشأتني سوية معافاة».
«هل هي مشاغل الحياة كما قلت لها؟ لا أظن».
«وهل أنا فعلا مقصرة في حق أولادي كما تقول عمتي؟!»
انتبهت لنفسي:
«لا بل هى تضيع الوقت لكي تضيع علي فرصة بيع الأرض». «نعم
هي تراعيها بإخلاص.. وتعطينا حقنا في وقته دون مماطلة؟.. لكنها مستفيدة منها بلا
شك!!»
«لكن الأرض عندها في آمان.. تخدمها هي وأولادها، وتعطينا
أكثر مما كنت أتحصل عليه من أبي».
«أرضى وأنا حرة فيها».
«وهى عمتي وتقدم لى النصح!»
«الصواب والخطأ وجهات نظر بحسب المنفعة».
«هذا البيع سيقطع صلتي بالبلد وبأقربائي إلى حد ما».
«أنا فعلا في غنى عن المجيء إلى هنا بدليل كل تلك السنين
التي مرت».
«لا.. فقد كان والدي همزة الوصل.. وكنت أشعر في وجوده
بأنني لم أغب عن بلدى.. وكانت عمتي تزورنا وتعطينا ريع الأرض.. بعد بيع محصولها».
«إذا بعت الأرض قد لا يصبح لي حجة في المجيء إلى هنا،
ولا سبب لها في المجيء إلى هناك».
«أنا في حيرة فعلا سأبيعها».
«هل أسأت التعبير بعدما شعرت بالفراغ بموت أبي».
«هاهي عمتي تعيد لي صوابي».
شدتني رائحة التقلية من دوامتي تقتحم أنفى، وتدخل إلى
مسامي، وصوت عمتى:
- هيا يا حبيبتى الأكل جاهز.. أكيد جعت.
- أبدا يا عمتي هناك نأكل بعد هذا الوقت بكثير.
- الطبلية أمامك تحت التكعيبة.. اعدليها.
لم ألحظ أن التكعيبة لا تزال في مكانها، ولاتزال أوراقها
ترسم ظلالها على الأرض وعلى ملابسنا لوحات بديعة ومتغيرة.. رددت بيت الشعر
المعروف:
تصد الشمس أنَّي واجهتنا = فتحجها وتأذن للنسيم
ولم أدر كيف عرف أولاد عمتي وأحفادها أن موعد الغداء قد
حان فأتوا جميعا يركضون.. قالت عمتي:
- أتأكلين معهم أم وحدك!!
- معهم يا عمتي.. معهم.
والسؤال الذي قفز إلى ذهني:
«كيف سيأكل كل هذا العدد من الكبار والصغار وعمتي ذبحت
دجاجتين فقط؟»
إلتف الكبار حول الطبلية.. أما الصغار فقد فرشت لهم أمهم
قطعة مشمع بجوارنا، وبدأت عمتي تخرج قطع اللحم دون أن تكشف الغطاء:
- نصيبك يا ابنة الغالي.
واستمرت «تدس» يدها من تحت الغطاء وتسمي وتعطي يمينا
وتعطي شمالا وأنا أتابعها لاهثة الأنفاس متوقعة أن يدها ستخرج ذات مرة فارغة قبل
أن يأخذ باقي الأولاد نصيبهم.. ولم يحدث حتى آخر طفل.. هدأت أنفاسي.. ونظرت إلى
عمتي وقلت لها نقتسم نصيبي يا عمتي.
تبسمت وقالت:
- ربنا ما يحرمني منك يا ابنة الغالي.. كلك حنية مثل
أبيك.. حقي موجود يا الحبيبة.
أخرجت قطعتها وتابعت كلامها:
- أنا لا أنسى نفسي أطمئني.. كلى.
وأكلت.. ومع أول رشفة من الملوخية اكتملت بداخلي معزوفة
التوحد مع هذا النظام الذي أنا منه.
هل يقبل الإنسان على طعامه بمسامه
كلها فيحسها تتفتح وتدرك أنه ألذ طعام، وأن جميع ما حولها يتمتع بنصيب وافر من
صفاء الجو والنفس.
وترمينى ذاكرتى لسنوات مضت إنه ذات
الطعم الذي كنا نتقاتل من أجله صغارا، وندرك أن قطعة اللحم الصغيرة من يد عمتي كم
هى لذيذة ومشبعة، ونرفض العودة إلى المدينة إذا ما جاء أبي ليأخذنا.
نمسك أنا وإخوتى في جلباب عمتي ونرجوها أن تجعله يتركنا
حتى نهاية الأجازة.
ولم يكن الأكل فقط هو ما يجذبنا للبقاء وإنما الانفلات
من قبضة الرقابة، والركض بين الحقول وحواديت عمتي في المساء.
فعند النوم أتشاجر أنا وابنة عمتي على حِضنها، فإذا
بعمتي تحل المشكلة في هدوء بأن تنام على ظهرها وتنيمني على ذراع وابنتها علي
الذراع الأخر، ونسعد جميعا بدفئها.
صحوت من ذكرياتي على صوت عمتي:
- تذهبين الآن لتشاهدى أرضك؟!
وجدتني أقول بحماس:
- ليس الآن يا عمتي.. يوم الجمعة القادم أحضر الأولاد
لنراها جميعا[1].
[1]
الأهرام - 11يونيو 1999./ موقع القصة العربية- 8يناير 2008.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق