الأحد، 2 ديسمبر 2012

طوق النجاة: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى



طوق النجاة
:
لمع النور الأحمر.. ضغطت قدمي الفرامل.. توقفت سيارتي الفارهة.. ملت برأسي يمينا.. كم أشفق على هؤلاء الوقوف في انتظار الأتوبيس.. تلهبهم حرقة الظهيرة.. يلفهم العرق.. أحدهم يظلل رأسه بجريدته يبدو أكثر تململا.. من.؟ لا أصدق عيني.. صلاح شاكر.. يقف في انتظار الأتوبيس..  هذا السمين المترهل.. الأصلع.. هذا.. هو.؟
لمع النور الأخضر.. انطلقت بعلامات التعجب.. زوجي وابنتاي في انتظاري.. غذاؤنا اليوم بالنادي.. الشقية الصغيرة لا تكف عن الحركة.. تجري وراء أي شيء يطير.. كم هى لطيفة.! شقيقتها الكبرى على العكس منها.. هادئة رزينة .. الأروع منهما أحمد.. زوجي.. يخرج من الانسان أعظم ما فيه.. عود الكبرى القراءة والتأمل:
- ستكونين فيلسوفة يا عزيزتي.
ملأ وقت الصغرى باللعب الميكانيكية.
- أنفقي يومك كله تفكين وتربطين، قد تخترعين ما ينفع البشرية.
أما أنا.. همه الأول.. كم أسعدني.. تسلمني كيانا محطما.. مقبلة على الانتحار.. رد إلىَّ الحياة.. البسمة.. الأمل.. نسيت ذكرياتي المؤلمة منذ ارتباطي بأحمد.. ما لهذه الصدفة المقيتة تعترض طريقي اليوم.. لماذا رأيته.
لاحت جدران النادي.. في أحضان ابنتي تتلاشى الصورة البشعة.. مع ابتسامة زوجي وأحاديثه الشيقة يتوه آخر خيوطها من ذاكرتي.
- لا تُجِدين إخفاء ما يشغلك.. ماذا بك.؟
- تخيل من رأيت اليوم.؟!
- من.؟
- صلاح شاكر.. أو رجلا يشبهه.
- أين.؟
- عند موقف الأتوبيس.. كنت في انتظار الاشارة المرور.. تغير كثيرا.. نظارة سميكة.. كرش كبير.. شحوب مميت و.....
- نعم .. هو.. هو.
أنت تراه.!
- كثيرا.. خسر ثروته.. يعمل موظفا بسيطا في مصنعه.. لم أشأ أن أوذي مشاعرك الرقيقة بأخباره.
- أخباره.!.. بل حماقاته.
- لم تعد له حماقات.. يجتر مرارتها منذ أن مات ابنه.
- أمات سمير.!!
- مات.. أحمدي الله أن أراحه من أب كهذا.. اطلبي للابن الرحمة وللأب السماح.
- السماح.؟! كيف.؟ لا تزال أمي تدفع من صحتها وبال أفعالة.. كيف تستقبل خبرا كهذا.. شاهدت بعينيها ابنتيها وهما تسقطان واحدة بعد الأخرى في براثن ذئب لعوب.. يتبخطر بجاهه وشبابه.. يشير لأية فتاة فتقول له لبيك.. واحدة فقط لم تقلها.. اضطر لأن يغير عدة القنص.. الزواج.. يجب أن يصل لفريسته النفرية.. أختي الكبرى.. ومن ترفض عريسا مثله.!
وقع الصيد.. أحكم عليه قبضته.. انتقلت أختي إلى بيته.. أصبحنا في يوم وليلة من علية القوم.. نجالس الكبراء ذوي الحول والطول.. نتعامل معهم كأننا منهم.. أغمضنا أعيننا عن وردتنا الناضرة وهي تذبل رويدا.. رويدا.. صككنا آذاننا عن سماع شكواها المتكررة.
أضيق بها:
- ارحمي أمي من شكواك.. لا تتبطري على النعمة.
لم يطرق سمعنا إلا صليل التفخيم وعبارات التقدير.
كنت طالبة بالجامعة.. تسعدني نظرة الغبطة في عيون الزملاء والزميلات.. يتهامسون:
- قريبة صلاح شاكر.. صاحب المصانع المعروف.
أسعد أيامي أن يمر بسيارته يأخذني أمام الزملاء إلى فيللته.
أنظر إلى وجه أختي شاحبا.. الدموع جافة في مآقيها.. أشيح بوجهي.. أتمتم:
- لا تستحق النعمة.
انظر إليه.. الأمل.. التفاؤل يملآن عينيه.. يفيضان على بشرته.. تزداد وسامته في عيني.. أتمتم:
- ليتني مكانها.
أسأله:
- أراك سعيدا دائما.؟
- لأنني لا أعقد الأمور كأختك.. الحياة لا تستحق أن نكدرها، فتكدرنا.
- منطق رائع.
لماذا تعقِّدين الأمور يا أختي.. كدت تقضين على نفسك.
- لن أجيبك.. لو تملكين مشاعر الأخت لأجبتك.!
هززت كتفي:
- أنت حرة.
ردت أمي:
- الولد الشقي سيغير من طباعه.
- الحمل ضاعف من تدهور صحتها.. أودعتنا طفلها وودعتنا إلى الأبد.. بكاها صلاح كثيرا.. طفله عندنا في رعايتي.. يتردد لرؤيته.. يجلس إليَّ طويلا.. يبهرني بحديثه.. يسألني:
- لماذا ترفضين الزواج.؟!
- لم أجد من يستحق أن يكون عديلا لصلاح شاكر.
- ولو أتيتك بعريس أرضى به عديلا.
أوافق على الفور.
- به عيب واحد.. أرمل وله ولد.
- أوافق مادمت أنت موافق.
- أنا.. هو.. ما رأيك.؟
كاد يغمى علي.. زففت إليه.. عروس ليوم واحد.. الليلة التالية جاءني مع بداية الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.. مخمورا.. يترنح.. يتثاءب.. يتباوع.. يصل إلى فراشه جثة هامدة.. كم هو مقزز في المساء.!.. رفسته بقدمي.. صرخ:
- أنت مثلها.. سأنتقم منكما.
بت أتحين فرصة الذهاب إلى أمي.. أجلس حيث كانت تجلس أختي.. الآن فقط.. عرفت ماذا كانت تقول:
- لست أكثر من قطعة أثاث بالبيت.
- الأثاث مشمول بالرعاية والنظافة، تمر عليه الفوطة مرة أو مرتين في اليوم.. تجلو عنه الغبار.. تعود بهجته ولمعانه.. أنا لا أجد اليد التي تمسح حزني المتراكم.
- الصبر يا ابنتي.
كنت أعالج فتح أحد الأدراج.. وقع نظري بالمصادفة عليها.. المرآة.. نسيت منذ زمن أن في بيتنا مرآة.. أذهلتني المفاجأة.. لم أر وجهي.. كان وجهها.. العينان بهالتيهما السوداوين.. الجبين بتقطيبته الدائمة.. رن صوتها.
- لو تملكين مشاعر الأخت لأجبتك.
عضني الندم.. الثمن غال جدا.. آسفة يا شقيقتي.. ليتني ملكت مشاعر الأخت.. عزائي أنني أربي قطعة منك.. ابنك سمير في أحضاني.. من أجله أتحمل الرجل المستهتر,, العائش في غير زمنه.. ليتك تسامحينني.. ليتك.
قطع حديثي معها في المرآة صوت سمير.. أسرعت إليه.. يرتعد.. محموم.. الماء المثلج.. أين أبوه.؟ لا أين الطبيب.؟
- ظل الطبيب بجواره حتى الصباح.
جاء أخيرا.. لم يشعر بوجود الطبيب.. لم يزعجه غيبوبة ابنه.. هو أيضا في غيبوبة.
تحسن الولد قليلا.. تنفسنا الصعداء.. غادرنا الطبيب وهو يلقي بتعليماته.
- الحرارة كل نصف ساعة.. الماء البارد على رأسه دائما.. الدواء بانتظام.. أبلغيني بتطورات الحالة.. سأرسل له ممرضة إن لم يتحسن اليوم.
- من الذي تتحدثين معه.؟!
- صحوت أخيرا.. إنه الطبيب.
أي طبيب.؟
- ادخل غرفة ابنك وأنت تعرف.
- ابني.. من قال لك إنه ابني.؟
- ماذا.؟ أجننت.؟!
- أسبوع واحد يأتي لي بطفل.؟ لماذا لم تجييء لي أنت الأخرى بطفل.!
- ما هذا الكلام.. أتشك في أختي.؟
- اتركي البيت حالا وإلا قتلتك.
- هذا ما أتمناه.. سمير مريض سآخذه معي.
- لن تأخذيه.
- ألم تقل إنه ليس ابنك.؟
- لكنه الورقة الرابحة.. أحرق بها قلبك وقلب أمك.
بقوة البوليس نقلنا الصبي إلى المستشفى.. توالت القضايا.. كل منا متشبث بالطفل.. حكم له.. توسلتْ إليه أمي.. كادت تقبل قدميه أن يترك لها سمير.
- ماذا فعلنا لك.؟!
- ابنتك أذلتني.. بعد أسبوع من زواجنا .. كرهتني .. حرمتني على نفسها.. تذللت لها.. قبلت قدميها لم تغفر.. وعدتها أن أقلع عن كل شيء وأكون طوع بنانها.. لم تقبل.. قالت:
- سأبقى قليلا من أجل كلام الناس وأترك البيت.. اكتشفت حملها.. هددتها:
- لن أعترف بالطفل إذا لم تمتثلي لي.!
لم تأبه لتهديدي.. مطت شفتيها.. شمخت برأسها.. كانت عنيدة صلبة لم استطع كسرها.. هزمتني في حياتها.. وهزمتني بموتها.. القصاص هو شفائي الوحيد.. لن تريا ابنها أبدا.
انقطعت أخبار الطفل.. كدت وأمي نموت حسرة وغما.. أمي تبكي حفيدها، وأنا أبكي حظي.. سأنتحر.. امتدت يد أحمد.. انتشلتني من الموج المتلاطم.. كما ينتشلني صوته الآن من دوامتي:
- ابتعدت كثيرا.. نحن هنا.
- أنت هنا دائما.. طوق نجاة .. والأمل.
- لا تخبري والدتك بموت سمير.. أخشى عليها.
- بل ستفرح بأن نام الصبي أخيرا في حضن أمه و.. تطمئن إلى.. عدالة السماء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق